الصحافة بين الأمس واليوم: مهنة تغيرت مع الزمن
الكاتب: محمد الحاجم
كانت الصحافة يومًا ما مهنة لا تشبه غيرها، رسالة مقدسة لا مجرد حرفة. كان الصحافي أشبه بالمعلم والطبيب، يحمل على عاتقه أمانة الكلمة، ويقف عند خط المواجهة، كاشفًا الحقائق، مدافعًا عن المبادئ، مجسدًا صوت الناس وسلطتهم الرابعة. لم تكن الصحافة مهنة من يبحث عن الشهرة أو المال، بل كانت ملاذ الأحرار، وميدان أصحاب الفكر الحر والموقف الثابت، حتى لو كلفهم ذلك السجون أو قادهم إلى النفي والموت.
كانت الصحيفة نافذة الصباح التي تتفتح عليها العقول قبل العيون، تلتقطها الأيدي بشغف، يتصفحها العامل في طريقه إلى عمله، يقرأها المثقف ليصقل فكره، تتابعها ربة المنزل مع قهوتها، ويجد فيها العاطلون عن العمل عزاءً وسط ركام أزماتهم. كانت الصحافة مرآة الواقع، لا تهادن ولا تجامل، تكتب بمداد الجرأة، وتصدح بالحقيقة مهما كانت مُرة.
تحول الزلزال… واندثار الصحافة الورقية
لكن الزلزال وقع، ولم يكن زلزالًا يهز الأرض بل هز أركان المهنة ذاتها، فلم تعد الصحافة كما كانت. لم تسقط الأبنية، بل سقطت القيم الصحفية، وانحسرت الكلمة أمام زحف التكنولوجيا، وتغير المشهد بالكامل. تحول الصحافي من باحث عن الحقيقة إلى ناقل لما يريده الآخرون، وأصبحت شاشات الهواتف الذكية هي الصحيفة البديلة، تضيء وتخبو، تفتح آلاف النوافذ وتغلقها، تحيل القارئ إلى عوالم من الأخبار والمعلومات المتناقضة، ليضيع في زحمتها الخبر الصادق والموقف الصلب والرؤية العميقة.
لم يعد المقال نتاج فكر عميق، بل أصبح مجرد تجميع لعشرات الأفكار المسروقة، يعاد تدويرها دون بصمة، ودون شخصية. أصبح الكاتب مجرد مستهلك لمعلومات سريعة، يقتبس من هنا وهناك، دون عناء البحث أو التحليل.
تحولت الصحف إلى صفحات إعلانية، تملؤها فضائح المشاهير، وعروض الأزياء، وسباقات الحيوانات، وانحدرت الكلمة إلى سوق المزايدات، حيث لا مكان للحقيقة، بل لمن يدفع أكثر.
الصحافة بين المال والسلطة
أفرغت الصحافة من مضمونها، ولم يبقَ منها إلا أسماء عريقة تحاول الصمود في وجه العاصفة. رؤساء التحرير لم يعودوا حراس الكلمة، بل أصبحوا تجارًا يبحثون عن الأرباح، يبيعون العناوين لمن يملك النفوذ، ويحولون الصحف إلى منصات للإعلانات المدفوعة والتوجهات المفروضة.
أما الكتاب والصحافيون الذين حملوا عبء الكلمة يومًا، فقد وجدوا أنفسهم في مهب الريح، يبحثون عن فرصة عمل في عالم لم يعد يعترف بالكفاءة، بل بمن يكتب وفق الأوامر، أو ينسحب بهدوء حفاظًا على كرامته.
الحبر الذي تغير لونه
ورغم كل شيء، يبقى هناك ما لم يتغير… لون الحبر ظل أسود، لكن مع الوقت، لم يعد يصمد على الورق، صار يتلاشى، يتحول إلى أصفر، ثم إلى لا شيء. فقد الحبر بريقه حين صار تابعًا لأصحاب النفوذ، وفقدت الكلمة قيمتها عندما تحولت إلى سلعة.
الصحافة لم تمت، لكنها لم تعد كما كانت. بقيت بقايا الحروف على الورق، لكن جوهر المهنة تغير. من كان يكتب بالأمس بحبر الحقيقة، أصبح يكتب اليوم بحبر المصالح. ومن كان يقاتل من أجل المبادئ، بات يقاتل من أجل البقاء.
ربما يأتي يوم تستعيد فيه الصحافة عافيتها، وتعود إلى مجدها، حينها فقط، ستعود الكلمة لتكون سلاحًا، والقلم ليكون ضميرًا، والصحافة لتكون صوتًا لا يشترى ولا يُباع.