بلديات

مسكين جبران… ما هو انتماؤه؟

توما توما

بين سنة 2009 وسنة 2013، أصدر الباحث الدكتور سليم مجاعص ثلاثة مؤلفات عن جبران خليل جبران (دار كتب ـ بيروت)، هي على التوالي: “جنية جبران” (2009)، و”وجه النبي” (2011)، و”مجهولة جبران” (2013). وتضمنت هذه الكتب معلومات جديدة عن جبران وعلاقاته النسائية ومشاريعه التشكيلية، اعتماداً على وثائق ومخطوطات غير معروفة سابقاً، عثر عليها الدكتور مجاعص في محفوظات عدد من المكتبات العامة والمراكز الثقافية في الولايات المتحدة الأميركية.

يقدم كتاب “جنية النبي” وثائق ومراسلات تتعلق بحب جبران الأول: جوزفين بيبودي Josephine Peabody. أما “وجه النبي” فيتناول الجانب التشكيلي عند جبران، الذي انهمك فترة من الزمن في إنجاز لوحات مخصصة لما أسماه “هيكل الفن”. في حين عاد الكتاب الثالث “مجهولة جبران” ليكشف عن حب آخر ربط جبران بسيدة تدعى جرترود باري Gertrude Bary، كانت مجهولة عند معظم المهتمين بالدراسات الجبرانية.

وإذا وضعنا المعلومات والتفاصيل الجديدة التي كشف عنها الدكتور مجاعص حول حياة جبران وأعماله إلى جانب مؤلفات آخرى ظهرت خلال السنوات الماضية لعدد من الباحثين أمثال: توفيق الصايغ، سهيل بشروئي، سلمى الحفار الكزبري، جميل جبر، جان داية، هنري زغيب، إسكندر نجار… وغيرهم، فستتمثل أمامنا شخصية لجبران تختلف كثيراً عن الصورة التقليدية التي أعطيت لهذا الأديب الكبير منذ وفاته. ولذلك بات من الضروري إعادة دراسة حياته وكتاباته انطلاقاً من “الحقائق الموثقة” وليس اعتماداً على “تخيلات وافتراضات” تم الترويج لها لأسباب سياسية وطائفية في أحيان كثيرة.

وجدنا أن بعض المؤلفين يضع جبران في خانة “القومية اللبنانية”، ويقزّمه آخرون إلى حدود مارونيته الشمالية تحديداً (بلدة بشري). وقد رأى “دعاة العروبة” في اهتماماته التراثية ما يؤكد “عروبته”. أما “القوميون السوريون” فيشيرون إلى مئات المقالات والرسائل التي يتحدث فيها جبران عن سورية والأمة السورية. واعتبر “اليساريون” أن هجومه على الاقطاع والإكليروس يضعه حكماً في المعسكر اليساري. ويدخل في هذه المعمعة كتّاب يتحدثون عن “فكر جبران السياسي” و”فلسفة جبران”… وغيرها.

كل هؤلاء على حق، وكلهم على خطأ في الوقت نفسه. فجبران يجمع كل هذه النزعات المتناقضة في شخصيته المركبة، من دون أن تكون أية واحدة منها هويته الحقيقية. إنه بشراني ـ ماروني ـ مسيحي ـ لبناني ـ سوري ـ عروبي ـ شرقي ـ إنساني! وهو يكتب في الشعر والسياسة والفكر، لكنه ليس شاعراً بالمطلق ولا سياسياً بالمطلق ولا صاحب فكر عقائدي بالمطلق أيضاً. ولذلك سيكون مضيعة للوقت والجهد أن يحاول الباحثون تحديد انتماء جبران، فهذه المسألة تشكل نقطة خلاف أساسية بين الذين كتبوا عنه. ومن المؤسف أن بعض هؤلاء لجأ إلى الانتقائية والتجزيئية، بل والتزوير والتحوير أيضاً، بهدف إلباس جبران هذه الهوية أو تلك. فلنعرض الآن بعض عباراته في مسألة الانتماء والهوية.

يقول جبران في رسالة إلى إميل زيدان صاحب مجلة “الهلال”: “أنا من القائلين بوحدة سورية الجغرافية، وباستقلال البلاد تحت حكم نيابي وطني”. ويقول في رسالة إلى ماري هاسكل Mary Haskell: “تعرفين أن حلماً من أحلامي وواحداً من الأشياء التي أريد أن أعمل عليها، هو إقامة إمبراطورية عربية”. ويقول في رسالة أخرى إلى ماري: “جبل لبنان جزء من الإمبراطورية العثمانية، يختلف اختلافاً كلياً عن بقية الأجزاء كلها. إنه أشبه بمونتفيرو لم يُقهر… لسنا كباقي السوريين، إننا لا نشبههم بشكل”. ويضيف في الرسالة نفسها: “إن فينا دماء فرنسية وإنكليزية وأوروبية أخرى منذ زمن الصليبيين، ونحن جميعاً مسيحيون”!

إذن، أي انتماء لجبران: السوري أم العربي أم اللبناني أم المسيحي؟ الإجابة تعتمد على هوية كل واحد من المهتمين بالشأن الجبراني، فهم لن يعدموا عشرات النصوص المؤكدة لهذا الانتماء أو ذاك… طبعاً بعد أن يكونوا قد بتروها من سياقها السردي وإطارها الزمني. وهذا ما يفسر تضارب الباحثين في تحديد هويته الفعلية. والواقع أن جبران كان ضائع الهوية مثل الغالبية العظمى من الأدباء والكتاب في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

ومن المؤكد أيضاً أن الصفة السورية هي الغالبة على جبران وزملائه الأدباء في تلك المرحلة، لأنها كانت الصفة الواقعية والسائدة حينها. لكن مع تطور الأحداث السياسية واختلاط النعرات المذهبية الكيانية بالفكر السياسي، دبّت فوضى الانتماءات في صفوف المفكرين وعامة الناس على حد سواء، فضاعت الهوية القومية الأصيلة في خضم فقدان الوعي القومي. ولم يكن غريباً ضياع الهوية عند جبران، فهو لم يكن مفكراً في الشأن السياسي. ومن الظلم له أن نطالبه بموقف حاسم من مسألة الهوية القومية أو الوطنية، فهو أديب مبدع أولاً وأخراً. ويخطئ من يسعى إلى حصر جبران في إطار سياسي أو طائفي ضيق، بدلاً من تقديمه إلى القراء بوجهه الإبداعي العالمي. ونعتقد أن الوقت قد حان كي نتعامل معه من دون خلفيات وافتراضات فكرية وسياسية مسبقة. فهو نتاج متوقع لعصره بكل ما فيه من تفتت وضياع. لكن ميزته الأساسية أنه حطم تقاليد أدبية بالية، وقدّم أسلوباً كتابياً جديداً، وفتح آفاقاً رحبة للإبداع لم يسبقه أحد إليها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى