مقابلات

نعيم فرحات في حديث من القلب: “عاشوراء ليست فقط ذاكرة شيعية… بل ضمير إنساني، كما هي فلسطين”

Spread the love

خاص ستار نيوز فيجن – محمد الحاجم

في زمن تتزاحم فيه الصور والحقائق والمآسي، يخرج صوتٌ من صميم الهوية والثقافة والوجدان، ليُذكّرنا أن مقاومة الظلم ليست فقط بالرصاص، بل بالصورة، بالقصيدة، باللون، وبكل ما يحفظ الذاكرة من محاولات الطمس والتشويه.

إنه نعيم فرحات، مؤسس متحف فرحات للفن الحديث والمعاصر، أحد أبرز المشاريع الفنية العربية التي أخذت على عاتقها مهمة “مقاومة النسيان”، لا بالسلاح، بل بالفنّ. في هذا الحوار العميق، نتناول معه البُعد الإنساني للقضية الفلسطينية، والتقاطع المؤلم والمشرّف بين عاشوراء وكربلاء، وغزة وصبرا وشاتيلا، وكيف تتحوّل هذه الأحداث المأسوية إلى أعمال فنية تنبض بالحياة والموقف.

نعيم فرحات، مؤسس متحف فرحات

يبدأ نعيم فرحات حديثه من حقيقة لم تعد خافية على أحد: “الصهيونية العالمية تعمل على محو الذاكرة، ونحن نعمل على إثبات الذاكرة”.

بهذه الجملة تختصر فلسفة المتحف، حيث الفن ليس زينةً للعين، بل توثيق وموقف، مواجهة فكرية ووجدانية مع محاولات محو الحقيقة وتزويرها.

“نملك أرشيفاً ضخماً من الصور الفوتوغرافية التي التقطها المستشرقون منذ القرن التاسع عشر لفلسطين، القدس، أهلها، معمارها، حياتها اليومية. هذه الصور هي شهادة حيّة تثبت أن فلسطين كانت وستبقى للفلسطينيين. نحن نوثّق، ونحفظ، ونُذكّر”.

Artist Osama Diab 300×500 cm acrylic on canvas

يربط فرحات ببراعة بين مفهوم عاشوراء كرمزٍ للتضحية والحق، وبين القضية الفلسطينية، قائلاً:

“كما أن الشيعة منذ 1400 سنة لم ينسوا كربلاء، كذلك لا يستطيع الفلسطيني أن ينسى أرضه. لا يمكنك اقتلاع فلسطين من وجدان الفلسطيني، كما لا يمكنك اقتلاع كربلاء من وجدان الشيعي”.

يرى أن هذا الرابط ليس طائفياً، بل إنسانياً. “عاشوراء تجاوزت الطائفية، هي رمز إنساني للتضحية في وجه الظلم. كما أن صبرا وشاتيلا ليست مجرّد مجزرة عابرة، بل مرآة جديدة لكربلاء، لِعبرة تُجدَّد وتُروى”.

ويضيف: “حين تفقد امرأة لبنانية ابنها ومنزلها، وتقف على شاشة التلفزيون لتقول: فداك يا نصر الله، هذه ليست مجرد عبارة سياسية. هذه صدى من كربلاء، من امرأة لبنانية عادية، تقف بجانب الحق رغم الخسارة”.

في حديثه، يرفض نعيم فرحات اختزال الموقف الشيعي من فلسطين في بُعدٍ طائفي، مؤكداً:

“الشيعة في لبنان، سوريا، العراق، اليمن، وحتى في إيران، يقفون إلى جانب فلسطين من منطلق إنساني وليس طائفياً. رغم أن غالبية الفلسطينيين هم من السنّة (80%) والبعض مسيحيون (20%)، لا تجد الشيعة يقولون إنهم لا يدعمون فلسطين لهذا السبب. بل يعتبرونها قضية كل إنسان”.

وينتقد فرحات أن بعض الأنظمة السنية تخلّت عن القضية الفلسطينية: “للأسف، تمّ تصوير أن من يدافع عن فلسطين اليوم هم الشيعة فقط، لأن دولًا عربية سنّية في الحكم تراجعت عن دورها التاريخي”.

Mounir Alied 3×5 meters

حين يتحوّل اللون إلى مقاومة

بصوت حماسي يعبّر عن فخر كبير، يروي فرحات عن مئات الأعمال الفنية التي أُنتجت بإلهام من القضية الفلسطينية، وعن أكثر من 30 فنانًا من جنوب لبنان والضاحية، بالإضافة إلى فنّانين مسيحيين وعلويين ودروز، انضموا إلى مشروعه الفني الثقافي الإنساني.

“طلبنا من الفنانين المشاركة دون أي شرط طائفي. لم نسألهم إن كانوا سنّة أو شيعة أو مسيحيين. فقط طلبنا منهم أن يرسموا فلسطين، أو عاشوراء، أو صبرا وشاتيلا، أو أم حسين، أو أم عزيز… وأن يختاروا الطريقة التي يرونها مناسبة”.

الفنانون استخدموا الرمزية الواقعية أو ما يُعرف بـSymbolism Realism، وهي مدرسة فنية تُعبّر عن العنف والمأساة بأسلوب لا يُنفّر العين ولا يصدّ الدماغ. “حين تعرض مشهد عنيف جداً بأسلوب واقعي، الدماغ قد يرفضه أو ينغلق. لكن الرمزية تتيح لنا تمرير الرسالة دون صدمة مباشرة”.

Artist Ahmad Abdallah 300×500 cm acrylic on canvas

متحف فرحات: ذاكرة بصرية للمقاومة

في أرشيف المتحف، تحتل القضية الفلسطينية وعاشوراء حيزًا كبيرًا، حيث تُعرض اللوحات إلى جانب الصور، وتُستكمل عبر الفيديوهات والتسجيلات، في مشروع مفتوح على كل من يريد المساهمة في الدفاع عن الذاكرة الجماعية للشعوب العربية.

ويشرح: “نملك اليوم أرشيف صور نادر من صور القدس التي التقطها المستشرقون الغربيون، وهي تؤكد أن هذه الأرض لها شعب حيّ، يتنفس، يبني، يحب، يزرع، ويقاوم. لذلك، نعرضها في المعارض الكبرى، مثلما فعلنا في بيت اليونسكو خلال عام إعلان القدس عاصمة الثقافة”.

Gordon Harrower Coutts (1868 – 1937) American Farhat Art Museum collection

من صبرا إلى غزة… من كربلاء إلى بيروت

يرى فرحات أن تكرار المجازر التي ارتكبتها إسرائيل في صبرا وشاتيلا هو امتداد لمجازر عاشوراء:

“المجازر لم تتوقف، من كربلاء حتى غزة، كلها تستهدف الشعوب المستضعفة التي تقول لا للظلم. لذلك نرى أن ما يحدث اليوم في غزة يعيد إلى الأذهان مجازر كربلاء، وصبرا، وبيت فحم، وبيت حانون… هي كلها سلسلة واحدة”.

ويضيف: “الفن هنا لا يروي القصة فقط، بل يؤرّخ ويُعلّم الأجيال. الطفل الذي يرى لوحة عن غزة، أو عن الحسين، أو عن طفل فلسطيني يحمل حجرًا في وجه دبابة، سيتذكر ذلك أكثر من ألف خبر عاجل”.

فرحات يرفض فكرة أن الفن حكر على النخبة أو المثقفين فقط.

“في الجنوب اللبناني، هناك نساء ورجال عاديون يفهمون في الفن أكثر من نقاد في جامعات عالمية. لأنهم يشعرون. لأنهم عاشوا الحروب. لأنهم فقدوا أبناءهم. اللوحة التي ترسم أمًا فلسطينية أو طفلاً تحت الأنقاض تكلّمهم بلغة القلب”.

لهذا السبب، فإن متحف فرحات لا يستقبل فقط الزوّار الرسميين والباحثين، بل يشجّع العائلات والأطفال على التفاعل مع الأعمال المعروضة.

يختم نعيم فرحات حديثه بجملة اختزلت كل المقابلة:

“عاشوراء ليست فقط للشيعة. وفلسطين ليست فقط للعرب. كلاهما رمزان عالميان للحق والكرامة، والذاكرة لا تموت طالما هناك من يحفظها ويكافح لعدم اندثارها”.

ويضيف: “هدف الصهيونية هو إلغاء الذاكرة. هدفنا نحن أن نُبقيها حيّة، باللوحة، بالصورة، بالكلمة، بالأغنية، بالدمعة، بكل وسيلة ممكنة. وهذا هو جوهر متحف فرحات”.

الفن كقوة ناعمة… لكنه أشد من السلاح

يؤمن نعيم فرحات أن الفن ليس حياديًا، ولا يجب أن يكون كذلك. “اللوحة موقف”، يقولها بحزم، قبل أن يضيف: “الصورة تُحدث في النفوس ما لا تحدثه عشرات الخطب السياسية. اللون، الظل، الرمز، كلها أدوات تثير الوجدان وتُربك العقل وتوقظه من سباته”.

إن المتحف الذي أسّسه لا يُعنى فقط بجمع الأعمال، بل بمرافقة كل عملٍ بقصة، بسياق، بحقيقة. فكل لوحة، وكل صورة، وكل مجسم يحمل حكاية تُروى للأجيال، بعيدًا عن المقررات الرسمية التي تُعاد صياغتها بحسب موازين القوى.

“الفن التشكيلي، وبخاصة في العالم العربي، لم يعد مجرد تعبير جمالي”، يوضح فرحات، “بل أصبح منبراً للمقاومة، خاصة في ظل القمع السياسي أو التهميش الثقافي. عندما لا يكون للناس صوت في الإعلام، يصبح لهم صوت في اللوحة، في الجداريات، في النحت، في الغرافيتي”.

من أهم ما يميّز مشروع متحف فرحات هو رفضه للانغلاق ضمن طائفة أو هوية واحدة. رغم ارتباط المتحف برمزية عاشوراء وكربلاء، إلا أن الدعوة للمشاركة فيه مفتوحة لكل الفنانين، من مختلف الطوائف والمذاهب والانتماءات.

“كان لدينا فنان درزي من جبل العرب رسم لوحة عن أم فلسطينية تحتضن ابنها الشهيد، وفنانة مسيحية من الأشرفية جسّدت مجزرة صبرا وشاتيلا على هيئة صليب محاط بأطفال. وهناك فنان سني من طرابلس رسم ملحمة كربلاء كأنها تحدث في غزة. هذه اللوحات توحّد، لا تفرّق. تلغي الفواصل المصطنعة بين ماضٍ ديني وحاضر سياسي”.

هذه المقاربة العابرة للطوائف لم تكن خيارًا سهلاً، بل تحديًا، خصوصًا في بيئة ما زالت تخضع أحيانًا لسلطة الانتماءات الضيقة. لكنه يرى أن الفن يُمكنه كسر هذه الحواجز لأنه يخاطب الإنسان أولًا، لا الهوية.

Ahmed M Jalaludin 3×5 meters

الفن والتوثيق… ضد ثقافة المحو

يرى فرحات أن “العدو الأول للفن المقاوم هو النسيان”. في كل الحروب، أول ما يُستهدف هو الذاكرة. “حين تدخل جيوش الاحتلال إلى مدينة، تحرق المكتبات والمتاحف، لأن قتل الذاكرة يسبق قتل الجسد. ونحن هنا، في هذا المتحف، نحارب كي لا تموت ذاكرتنا”.

التوثيق ليس فقط بالصور واللوحات، بل بالشهادات، بالتفاصيل، بالأرشيف. “نملك الآن آلاف الوثائق الفنية التي توثّق القضية الفلسطينية منذ بداية القرن العشرين، بما في ذلك أعمال استشراقية نادرة، وصور بالأبيض والأسود من أرشيف المستشرقين، تُثبت الوجود الفلسطيني المتجذّر”.

وبالنسبة له، هذا العمل ليس ترفًا، بل معركة ثقافية يومية ضد منظومة إعلامية تحاول تصوير الفلسطيني على أنه “طارئ”، وعلى أن لبنان، وسوريا، والعراق، ليست سوى بقع مؤقتة على خريطة “شرق أوسط جديد”.

إلى جانب بعده السياسي، يحمل الفن طابعًا علاجيًا، وخاصة للفنانين أنفسهم. “عندما يرسم فنان لوحة عن المجزرة التي شهدها أو خسر فيها قريبًا له، هو لا يجمّل الألم، بل يُعيد امتلاك القصة”، يشرح فرحات.

هذا النوع من “التحرر من الصدمة” عبر الفن معروف في علم النفس، ويسمى Art Therapy. لكن في السياق العربي، يأخذ بعدًا إضافيًا، إذ يساهم ليس فقط في شفاء الفنان، بل في نقل قصته إلى جمهور أوسع، وتحويل التجربة الفردية إلى ذاكرة جماعية.

“هناك فنان من الجنوب كان قد فقد شقيقه في عدوان تموز 2006، رسم عشرات اللوحات عن لحظة القصف والوداع والتشييع، واليوم لوحاته تُعرض في معارض عالمية. هذا هو الانتصار الحقيقي للوجع: أن يُروى، لا أن يُنسى”.

Conceptual preforming art by the Artist Khawla Tfiali

ما يميز متحف فرحات أيضًا أنه ليس فقط صالة عرض، بل منصة تعليمية وتربوية. يستقبل طلاب المدارس، ويعقد ورشات عمل مع الأطفال، ويطلب منهم التعبير عن قضاياهم بالرسم.

“حين يرسم طفل لوحة عن القدس، أو عن صبرا وشاتيلا، أو عن الحسين، هو لا ينقل فقط مشاعر، بل يبدأ بتكوين وعي سياسي وثقافي. نحن نزرع الذاكرة في عمر مبكر، كي لا ينمو جيل جديد بلا جذور”.

وهذه التجربة أثبتت فعاليتها، إذ بدأ المتحف يفتح فروعًا رقمية، ويُنسّق مع مؤسسات تربوية لتطوير برامج تعليمية تعتمد الفن وسيلةً للتاريخ.

في نهاية الحوار، يشير فرحات إلى أهمية إيصال هذه الرسالة للعالم:

“نحن بحاجة إلى أن يرى العالم أن لدينا فناً راقياً، مرتبطاً بقضايانا، وليس فقط متحفاً للألوان والديكور. لهذا نشارك في معارض دولية، ونُرسل أعمالنا إلى برلين، باريس، لندن، نيويورك، وحتى إلى آسيا، ليرى الناس أننا نرسم لا لنُعجب، بل لنقاوم”.

في ختام حديثه، يعود إلى عاشوراء: “الحسين لم يمت لأنه كان فقط حفيد النبي. مات لأنه قال لا في وجه سلطة فاسدة. وكل لوحة تُرسم اليوم ضد الظلم، هي امتداد لهذه الـ لا”.

Sabra & Shatila , Ink on paper

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى