“إسرائيل” وتزوير الواقع و التاريخ – المحامي جورج جوزيف موصللي / الجزء الثالث
موقع « ستار نيوز فيجن » ينشر هذه الدراسة القيّمة للمحامي جورج جوزيف موصللي في ثلاث حلقات. كونها مرجع مهم جداً من حيث القوانين والنصوص و الأعراف الدولية.
القسم الثاني: الجسم الغريب، ذراع المؤامرة الغربية
الباب الأول: إسرائيل، وجه الإستعمار الجديد
ليست ” إسرائيل” وليدة المصادفة بل هي نتيجة تاريخ طويل من العمل الدؤوب المركّز، ومخطط رهيب تم تنفيذه على مراحل، وجائت ” إسرائيل” مولوداً غير شرعياً للتآمر الدولي على الحق العربي.[1]
وقد أدّت الأطماع الأوروبية بالسيطرة على الأمة العربية، إنطلاقاً من السيطرة على فلسطين كأهم موقع إستراتيجي يمكّنهم من هذه السيطرة، إلى دعم المشروع الصهيوني الهادف إلى إحتلال فلسطين، عبر تشجيع إستيطان اليهود في فلسطين و تجميعهم فيها.
و تأكيداً على هذه الأطماع التوسّعية، فقد نشرت جريدة التايمز اللندنية مقالاً بتاريخ 10 آب عام 1840 م تحت عنوان ” إعادة توطين اليهود” و أبرز ما جاء فيه:
” إن اليهود الغربيين بحوزتهم القدرة المالية على شراء أو إستئجار فلسطين من السلطان العثماني، و إرسال أعداد كبيرة من اليهود ليستقروا فيها شريطة أن تمتثل الدول الخمس الكبرى بتوفير الحماية اللازمة لهم.
إن قيام دولة يهودية سيفصل بين تركيا ومصر و سيدعم النفوذ البريطاني في الليفانت سياسياً و عسكرياً و إقتصادياً، و بمعنى آخر فإن هذه الدولة القترحة ستكون أداة لخدمة مصالح الإستعمار البريطاني في منطقة الشرق الأدنى.”[2]
و قد إعتبر ناحوم غولدمان، وهو سياسي يهودي، مؤسس المؤتمر اليهودي العالمي، في محاضرة ألقاها في مدنية مونتريال الكندية في العام 1947 أنه:
” لم يختر اليهود فلسطين لمعناها التوراتي بالنسبة إليهم، ولا لأن مياه البحر الميت تعطي سنوياً، بفضل التبخّر، ما قيمته ثلاثة آلاف مليار دولار من المعادن و أشباه المعادن، وليس أيضاً لأن مخزون أرض فلسطين من البترول يعادل عشرين مرة مخزون الأميريكيتين مجتمعتين، بل لأن فلسطين هي ملتقى طرق أوروبا و آسيا و أفريقيا، و لأن فلسطين تشكل بالواقع نقطة الإرتكاز الحقيقية لكل قوى العالم، ولأنها المركز الإستراتيجي العسكري للسيطرة على العالم.”[3]
وقد تنبهّت الإمبراطوريات الغربية الإستعمارية إلى أهمية موقع فلسطين الإستراتيجي بين مصر وبلاد الشام، و إلى ضرورة إخضاع هذا الموقع للغرب منعاً لقيام الإتحاد بين المشرق العربي ومصر الذي يشكّل مفتاح الدفاع عن الأمن العربي الشامل. فمنذ العام 1799، عمد نابوليون بونابرت أثناء حصاره مدينة عكا إلى إستمالة اليهود لمساندة الإحتلال الفرنسي لمصر و المشرق العربي، و أطلق وعده لهم بإقامة وطن لليهود في فلسطين، و قد جاء في هذا الوعد:
” يا ورثة فلسطين الشرعيين: إن الأمة العظيمة… تناديكم الآن لا للعمل على إعادة إحتلال وطنكم فحسب، وليس بغية إسترجاع ما فقد منكم، بل لأجل ضمان ومؤازرة هذه الأمة لتحفظوها مصونة من جميع الطامعين بكم لكي تصبحوا أسياد بلادكم الحقيقيين…” [4]
و لقد إلتقت الإرادتان الصهيونية و الإستعمارية بناء على دراسات و إستطلاعات و ليس من باب الصدفة، و كان من أبرز الإستطلاعات ذلك الذي قامت به لجنة إستعمارية بريطانية كلّفت بذلك من قبل رئيس وزراء بريطانيا كامبل بنرمان و قد عرفت اللجنة بإسمه.
بعد إستطلاع اللجنة المكلفة من قبل بنرمان و إنتهائها من أعمالها تمت الدعوة إلى مؤتمر إستعماري في لندن في العام 1907 من أجل تحديد الدور البريطاني في عملية إقتسام التركة العثمانية.
وقد توصل المؤتمر إلى نتيجة ملخصها: ” إن مصدر الخطر الحقيقي على الدول الإستعمارية إنما يكمن في المناطق العربية من الدولة العثمانية، لا سيما بعد أن أظهرت شعوبها يقظة سياسية ووعياً قومياً ضد التدخل الأجنبي والهجرة اليهودية والحكم التركي أيضاً.” [5]
وقد وجدت الدول الغربية، لا سيما بريطانيا وفرنسا و أميركا، في اليهود مخفر شرطة جاهز لو وطّنوه في فلسطين، قلب الأمة العربية، لساعدهم ذلك على حماية مصالحهم في المنطقة. [6]
وهذا ما يوضح لنا الظروف التي خلقت فيها إسرائيل، والتي جعلت دول العالم التي لا تتفق على قضية، تتفق على إيجاد “إسرائيل”.[7]
وفي هذا الإطار يقول المؤرّخ الفرنسي مكسيم رودستون:
” إن تشكيل دولة إسرائيل على أرض فلسطين هو نتيجة لتطور يمكن إدراجه تماماً في حركة التوسّع الأوروبية-الأميريكية الكبرى في القرنين التاسع عشر و العشرين للإستيطان أو للسيطرة إقتصادياً و سياسياً على الشعوب الأخرى.” [8]
و يضيف رودتسون بأن تيودور هرتزل كان يدرك بعمق الغاية الحقيقية للغرب و قد صاغ الهدف الذي يتقاطع مع التطلعات الإستعمارية في فلسطين، وهو: ” أن تقيم هناك جزءًا من حائط لحماية أوروبا في آسيا، يكون عبارة عن حصن منيع للحضارة في وجه الهمجية.”[9]
مهّدت سلطات الإنتداب البريطاني لظهور فكرة تقسيم فلسطين بين دولتين: واحدة عربية، وثانية يهودية. ونشأت هذه الفكرة منذ العام 1937 عندما إقترحتها لجنة “بيل” الملكية البريطانية في تقرير رفعته عن حالة فلسطين، و جاء فيه: ” ما دام العرب يعتبرون اليهود غزاة و دخلاء، و ما دام اليهود يرمون إلى التوسّع على حساب العرب، فالحلّ الوحيد هو الفصل بين الشعبين، فتؤلّف دولة يهودية في الأراضي التي يكّون اليهود أكثرية سكانها، ودولة عربية في الأماكن الأخرى.”[10]
وبتشجيع ودعم كل من الولايات المتحدة الأميريكية و الإتحاد السوفياتي صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29/11/1947، على قرار تقسيم فلسطين رقم 181، الذي عارضته الدول العربية و رفضه الشعب الفلسطيني.[11]
تذرّعت الحركة الصهيونية بصدور قرار التقسيم لتأخذه سنداً قانونياً لإعلان “دولة إسرائيل”، ففي 14/5/1948 أعلن ديفيد بن غوريون ما سمّي “إستقلال دولة إسرائيل” و مما تضمنه هذا الإعلان:
“نحن أعضاء المجلس القومي الممثل لشعب يهود بلاد إسرائيل و الحركة الصهيونية العالمية، و الذين نعقد اليوم، يوم إنتهاء الإنتداب البريطاني مجمعاً إحتفالياً، وبموجب الحقوق الطبيعية و التاريخية للشعب اليهودي، وبموجب قرار الجمعية العمومية للأمم المتّحدة، نعلن تأسيس الدولة اليهودية التي ستحمل إسم (دولة إسرائيل)”[12]
ومع أن اليهود كانوا يملكون أقل من 7% من مساحة فلسطين عند صدور قرار التقسيم قبل إنتهاء الإنتداب البريطاني سنة 1947، جاء مشروع التقسيم ليعطيهم أكثر من 50% من تلك المساحة. ومع ذلك لم يسلّم بحدود التقسيم أي من التيارات الصهيونية الأساسية، بل أن المتساهلين منهم إعتبروا قبولها مؤقتاً نوعاً من التضحية على أمل حدوث متغيّرات مقبلة.[13]
وفي حين عبّر مناحم بيغن و المنظمة العسكرية القومية المعروفة بإسم الأرغون عن موقف المعارضة معتبرين أن أرض ” إسرائيل” لا يمكن تقسيمها، ولا يجوز، بل من الواجب إعادة توحيدها، أشار بن غوريون، لا سيما بعد الحرب العربية-الإسرائيلية الأولى، في 15/5/1948، إلى أن:
” حدود الحرب هي التي ستتحول إلى حدود البلد، وعليه، فإن ما سنستولي عليه في المعارك سيبقى في أيدينا، و إن المكان الذي لا نصل إليه سيكون سبباً في البكاء للأجيال.”[14]
و قد إرتكز الكيان الغاصب دوماً على العنف و الإرهاب، وعلى الرغم من حرص “إسرائيل” الدائم على الظهور بمظهر الدولة الديمقراطية المتمدنة و المتحضّرة في محيط متخلّف يسوده الجهل و الإستبداد، ورغم سعيها بمختلف الوسائل الإعلامية إلى تسويق صورة اليهودي المعذّب و المضطهد، المنتهكة حقوقه، و الضحية الكبرى للنازية، إلا أن هذه الصورة سرعان ما إهتزّت بعدما تحّول الضحية إلى جلاّد. وهي الحقيقة التي بدأ الرأي العام العالمي يكتشفها شيئاً فشيئاً من خلال الوقائع التي ظهرت في الإعلام كنماذج بشعة من ممارسات التعذيب واللجوء إلى العنف المبرمج، وخاصةً مع المعتقلين اللبنانيين و الفلسطينيين.[15]
و الإرهاب ليس أمراً عرضياً أو ظرفياً في تاريخ إسرائيل، بل هو مركّب عضوي و أساسي في الصيغة الصهيونية و الثقافة اليهودية المعاصرة. و الإرهاب هو الآلية الأساسية التي تم من خلالها تفريغ جزء من فلسطين من سكانها و إحلال المستوطنين مكانهم. وقد تم هذا الأمر من خلال إرهاب منظّم مورس قبل إنشاء الكيان الصهيوني و بقي بعده.[16]
و قد إتّخذ الإرهاب الإسرائيلي عدّة أشكال منها: الإبتزاز، المجازر، إعتراض الطائرات المدنية، الإغتيالات و التجسس.
كل هذه الأعمال لم توجه فقط ضد العرب، بل طالت أيضاً دول حالفت ” إسرائيل” أو ناصرتها، حتى أن الولايات المتحدة الأميريكية لم تكن بمنأى عن عمليات تجسس الموساد. ففي تشرين الثاني عام 1985 ألقت السلطات الأميريكية القبض على جوناثان بولارد بتهمة التجسس لصالح إسرائيل.[17]
وقد أتقن الصهاينة ممارسة العنف و الإرهاب، وتفوقوا فيهما بشكل ملحوظ. فبالرغم من تعرّضهم للإضطهاد في روسيا ثم في أوروبا على يد النازي ومتاجرتهم بهذا الأمر عبر المبالغات الكبرى التي قام بتعريتها روجيه غارودي، وكشف بالتالي لعبة الإبتزاز الدولي التي يمارسها اليهود بنجاح، فإن تمثيلهم لدور الضحية جعلهم على ضوء بعض نظريات علم النفس، في توق عميق إلى لعب دور الجلاد.[18]
إن تمثيل اليهود لدور الضحية العالمية جعلهم أكثر إعتياداً على العنف و التعذيب، تنفيساً عن مشاعر الكراهية المكبوتة تجاه جميع الأمم و الشعوب.
لكن الضحية هنا تفوقّت على جلاّدها، وتفننت في إستخدام مختلف وسائل العنف و القوة. والفكر الصهيوني يزخر بمبررات لا نهاية لها للعنف المسلّح مستنداً في ذلك إلى شواهد توراتية و إستدلالات تلمودية و تاريخية.[19]
ولقد قدّمت الحركة الصهيونية أمثلة مبكرة على الإرهاب الدولي في الشرق الأوسط و ضد دول حليفة، من مثال ذلك:
-تفجير سفينة باتريا وركابها على متنها في مرفأ حيفا في العام 1940 بقصد ممارسة الضغوط على بريطانيا.
-“فضيحة لافون” وهي عملية إسرائيلية ضد الممتلكات الأميريكية و البريطانية في مصر لتوتير العلاقات بين واشنطن و لندن من جهة وحكومة عبد الناصر من جهة أخرى في العام 1954.
-تدمير فندق الملك داوود في القدس في تموز عام 1946 وقد ذهب ضحية هذا الحادث الإرهابي حوالي مئة موظف رسمي من البريطانيين و العرب.[20]
وفضلاً عن جرائمها بحق الشعب الفلسطيني و المجازر التي قامت بها في فلسطين المحتّلة، فقد تقدمت القوات الإسرائيلية إلى مواقع متعددة داخل الأراضي اللبنانية و إقتطعت مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية على الحدود الجنوبية، كما إحتّل الجيش الإسرائيلي مساحة شاسعة من الأرض العربية في مصر و سوريا و الضفة الغربية و قطاع غزة بعد حرب حزيران 1967.[21]
ورغم إنسحابها مرغمة من لبنان في العام 2000 تحت ضغط المقاومة، إلا أن “إسرائيل” ما زالت تحتّل بعض الأراضي اللبنانية كالقرى السبع و مزارع شبعا و تلال كفرشوبا…
كما أنه وفي مجال العنف و الإرهاب الصهيوني لا بد من ذكر عمليات الإغتيال التي قام بها جهاز الموساد الإسرائيلي بحق قادة فلسطينيين في عواصم عالمية ومنهم من كان متمتعاً بالحصانة الديبلوماسية، أبرز هذه العمليات هي:
-إغتيال كل من محمود الهمشري في باريس ووائل زعتر في روما خلال العام 1971.
-إغتيال الأديب الفلسطيني غسان كنفاني في بيروت في تموز 1972.
-إغتيال كمال ناصر و كمال عدوان و يوسف النجار في بيروت في نيسان 1973.
-إغتيال أبو حسن سلامة في بيروت في العام 1976.
-إغتيال سعيد حمامي، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية،في لندن في شباط 1979.
-إغتيال خليل الوزير (أبو جهاد)، في تونس عام 1988. [22]
كما قامت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بإغتيال عدد من الشخصيات العربية و أبرزها:
– إغتيال عالمة الذرّة المصرية سميرة موسى في سان فرنسيسكو في الولايات المتحدة الأميريكية عام 1951، وهي صاحبة أطروحة دكتوراه لدراسة إستخدام المواد المشعّة في جامعة أوكدرج.
-إغتيال العقيد المصري صلاح مصطفى، الملحق العسكري في السفارة المصرية في الأردن، في عمان بتاريخ 14/7/1956.
-إغتيال العالم المصري يحيى المشّد، وقد أسهم في تأسيس المفاعل الذرّي العراقي و كان متخصصاً في بناء المفاعلات النووية، إغتيل في باريس بتاريخ 14/6/1980.
-إغتيال الأستاذ الجامعي العراقي باسل الكبيسي، وهو أستاذ في جامعة كالاغري في كندا و كان يعمل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إغتيل في باريس في 6/4/1973.
-إغتيال الجزائري محمود أبو دية، وهو مدير مسرح في باريس ومتعاطف مع منظمة التحرير الفلسطينية، إغتيل في باريس في 28/6/1983.[23]
أما لبنانياً، فقد قامت إسرائيل بإغتيال مجموعة من القيادات البارزة في المقاومة اللبنانية، و منها:
-الشيخ راغب حرب: بعد فشل الجيش الإسرائيلي مراراً في إستهدافه و قتله، لا سيما إبان إجتياح العام 1982 و مداهمة منزله مرات عديدة، قام عملاء إسرائيل بإغتياله من خلال إطلاق الرصاص عليه أمام منزله في مساء 16 شباط 1984.
-الأمين العام السابق لحزب الله، الشيخ عباس الموسوي: قامت الطائرات الحربية الإسرائيلية بإستهداف موكبه يوم 16 شباط 1992 أثناء عودته من جبشيت بعد إحياءه الذكرى الثامنة لإستشهاد الشيخ راغب حرب.
-عماد مغنية: بعد فشل عدة محاولات لإغتياله في لبنان على يد الموساد الإسرائيلي، فقد تمكّنت إسرائيل من قتله في دمشق بواسطة سيارة مفخخة بتاريخ 12 شباط 2008، وفي حين نفى رئيس وزراء إسرائيل في حينه إيهود أولمرت ضلوع إسرائيل في العملية، أكّدت صحيفة واشنطن بوست الأميريكية أن وكالة الإستخبارات المركزية الأميريكية (سي آي أي) وجهاز الإستخبارات الإسرائيلية (الموساد) عملا معاً لوضع خطة إغتيال القائد العسكري في حزب الله.
سمير القنطار: وقد عرف بعميد الأسرى المحررين، لكونه قضى 29 عاماً في السجون الإسرائيلية قبل أن يفرج عنه ضمن صفقة تبادل أسرى بين حزب الله و العدو الإسرائيلي، لقي القنطار مصرعه في بلدة جرمانا جنوب دمشق في قصف صاروخي أصاب المبنى الذي كان يتواجد فيه نهار 19 كانون الأول 2015، و أتهم حزب الله “إسرائيل” بقتله.[24]
فضلاً عن لائحة كبيرة من الشهداء، و المعتقلين…
الباب الثاني: مقاطعة “إسرائيل” و أثرها على كيان العدو
بالإستناد إلى المواثيق و الأعراف الدولية و بالإطلاع على مختلف الآراء الفقهية يمكننا تعريف المقاطعة بأنها العقوبة التي تفرضها دولة أو مجموعة من الدول على دولة أخرى إرتكبت عملاً غير مشروع أو إقترفت جرماً ضد الإنسانية أو ضد المبادئ الدولية.
مع الإشارة إلى أن ميثاق الأمم المتحدة يعتبر المقاطعة تدبيراً لقمع الأعمال التي تهدد السلام أو تخّل به أو تسبب في وقوع عدوان.[25]
وفي مقابلة مع رئيس الجمعية اللبنانية لمقاومة التطبيع، المحامي فؤاد مطر، يشير الأستاذ مطر أن التطبيع هو جعل ما هو غير طبيعي طبيعياً، وفحواه هي جعل وجود الصهاينة في فلسطين أمراً طبيعياً، إنه نهج و أداء وجوهره كسر حاجز العداء و جعل الإحتلال الإستيطاني الإحلالي في فلسطين أمراً طبيعياً أو عادياً و مقبولاً، و يسعى من خلاله العدو لترويض عقولنا لتقبّل إقامة العلاقات الطبيعية مع كيانه المغتصب و إسباغ مشروعية لوجوده في ربوع هذه الأمة.
ويتابع الأستاذ مطر مشيراً إلى أن إستخدام الصهاينة مصطلح التطبيع للولوج إلى عمق قبول الإنسان العربي و إلغاء ثقافته هو قناع برّاق يخفي الحقد و الكراهية، و يستخدم وسائل شتّى لطمس حقوقنا و كسر عزيمتنا و إحباطنا لنتأقلم مع واقع وجوده، بعد أن يكون قد إخترق وجداننا و ثقافتنا لإعادة تشكيل منظومة قيمنا و تغيير مفاهيمنا و لطمس روح المقاومة فينا و شطب هويتنا العربية.
أما عن المقاطعة، فيؤكد الأستاذ فؤاد مطر بأنها بمفهومها العام فعل طبيعي تلجأ إليه الأمم و الأفراد للتعبير عن رفضهم لوضع غير مألوف، وهو سلوك شخصي من حق كل إنسان أن يقوم به تعبيراً عن رفضه للتطبيع و إسهاماً في عزل هذا الكيان المارق و اللقيط.
و يضيف الأستاذ مطر بأن المقاطعة العربية لإسرائيل بدأت في وقت مبكر تزامن مع بدايات التغلغل الصهيوني في فلسطين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، و قد أدىّ ذلك إلى صدامات بين العرب و اليهود، مما دفع السلطات العثمانية آنذاك إلى فرض قيود على هجرة اليهود إلى فلسطين، غير أن هذه القيود لم تكن فعاّلة بسبب الضعف و الوهن الذي أصاب السلطنة العثمانية، مما دفع العرب للإعتماد على أنفسهم و لذلك تم تشكيل منظمة فلسطينية سنة 1909 مهمتها الحيلولة دون بيع الأراضي العربية إلى اليهود، كما شهد العام 1910 الدعوة إلى مقاطعة البضائع اليهودية.
و إستكمالاً للسرد التاريخي، يعقّب الأستاذ فؤاد مطر بأنه في العام 1922 تشكّلت لجان لمقاطعة التجّار اليهود، وفي العام 1931 وجّهت اللجنة التنفيذية العربية نداءً إلى العالم العربي تطالبه بمساندة الفلسطينيين و مقاطعة اليهود.
أما في العام 1936 فقد شهدت فلسطين إضراباً عاماً و مقاطعة للبضائع البريطانية واليهودية و طالب العرب بإستقلالهم ووحدتهم…
والمقاطعة التي حققت نتائج مهمة قبل إتفاقية كامب ديفيد المشؤومة بحسب الأستاذ مطر، و أدّت إلى فرض منطق اللائات الثلاثة من قبل الدول العربية: ” لا صلح، لا تفاوض، لا إعتراف”، كما ادّت إلى مقاطعة جميع الشركات العالمية التي تتعامل مع إسرائيل و تم وضع القائمة السوداء التي تحرّم من يدخل إسمه فيها من فؤاد المتاجرة و التعامل مع الدول العربية… غير أنه و للأسف بعد توقيع السادات إتفاقية كامب ديفيد تغّير الوضع، ثم عمدت ” إسرائيل” إلى إستفراد الأقطار العربية وفق سياسة الخطوة خطوة و تعريب الصراع وفق إستراتيجية كيسنجر، مما أنتج إتفاقيتي أوسلو ووادي عربة، ففرض التطبيع الرسمي الذي خدم العدو و أصاب العرب بالضرر المبين.
و إذ يأسف المحامي فؤاد مطر من تزايد عدد المطبّعين العرب في ظل تزايد عدد المقاطعين الأجانب، يشير في هذا الإطار إلى إدراج صندوق التقاعد النروجي شركات إسرائيلية متورطة في الإستيطان على القائمة السوداء، و إعلان الصندوق التقاعدي الهولندي سحب إستثماراته من البنوك الإسرائيلية التي تعمل في الأراضي المحتلة عام 1967، وقرار أكبر بنك في الدنمارك مقاطعته لبنك هابوعاليم الإسرائيلي لتورطته في دعم الإحتلال، ويؤكد أيضاً أنه و بالرغم من الضغوطات التي يتعرض لها المقاطعون لإسرائيل في الولايات المتحدة الأميريكية، فإن أربع جمعيات أكاديمية كبرى تقاطع إسرائيل مقاطعة شاملة.
وفي بلجيكا هناك مقاطعة أكاديمية شاملة لإسرائيل من قبل إتحاد الطلبة الذي يضم مائة ألف عضو، و في إسبانيا أقر البرلمان الإسباني بحق الدفاع عن الحقوق الفلسطينية و تبنى قراراً يدعو الحكومة الإسبانية لإقصاء الشركات المتورطة في دعم الكيان الصهيوني، كما اقرّت بلدية برشلونة وقف أشكال التعامل مع الكيان الإسرائيلي، فيما لم تقبل ماليزيا بناء أية علاقة مع إسرائيل لأنها دولة مجرمة تطرد شعب فلسطين و تبني المستوطنات.
و في إيرلندا قرر إتحاد المعلمين بالإجماع مقاطعة أكاديمية شاملة لإسرائيل كما صدر قانون يحظّر إسترياد أو بيع بضائع أو قيام أية علاقة تجارية مع المستوطنات داخل الأراضي الفلسطينية و يعاقب المخالف بالحبس خمس سنوات أو بغرامة مالية قدرها مئتين وخمسين ألف يورو.
في الختام يلفت الأستاذ مطر إلى أن الكيان الصهيوني يضع المقاطعة على مستوى كبير من الإهتمام لأنها تضغط بشدة على نقاط ضعفه، و تخصص حكومته إجتماعات لبحث كيفية مواجهة المقاطعة و تضاعف الأموال المرصودة لمكافحتها، فهو يعيش بحالة قلق متزايد جرّاء تزايد المقاطعة له.[26]
أمام تخلّي غالبية الأنظمة العربية عن قرار مقاطعة ” إسرائيل” الذي أقرّته جامعة الدول العربية منذ إنشائها في العام 1945، و أمام إعتراف بعض الأنظمة العربية “بإسرائيل” و تعاملها تجارياً مع الشركات الإسرائيلية، وتسابق بعض الأنظمة العربية إلى إفتتاح مكاتب تجارية في “إسرائيل”، لم يبق أمام الجماهير الشعبية و مؤسسات المجتمع الأهلي في الوطن العربي إلا أن تعتمد على نفسها وتمتشق سلاح المقاطعة للرد على صلف العدو و تهاون الحكّام.[27]
وهذا ما شهدناه مؤخراً خلال مباريات كأس العالم 2022 في قطر، حيث رفضت الجماهير العربية بالمطلق وجود الإعلام الإسرائيلي و أكّدت عدم إعترافها بالكيان الغاصب و دعمها للشعب الفلسطيني و لدولة فلسطين!
الخاتمة:
كافة المفاهيم التي بنيت عليها ” إسرائيل” و أسندت وجودها عليها و إتخذتها مبرراً لناحية إحتلالها لفلسطين وطرد الشعب الفلسطيني، تبيّن كذبها وعدم صحتها المطلقة، من أسطورة “الوعد” إلى حلم “الأرض” و الكيان الغاصب ما هو في الحقيقة سوا أسوأ موجة إستعمار تلاقت عليها الإرادتين الغربية و الصهيونية طمعاً بخيرات أرضنا العربية و للوقوف سداً منيعاً أمام وحدة الدول العربية و تكاملها، فإسرائيل سرقت أرض فلسطين بتغطية من القوى الغربية لا سيما بريطانيا التي كانت منتدبة على الأراضي الفلسطينية فمنحت التسهيلات الضخمة و التي لا مثيل لها للصهاينة الذين أخذوا يتوسّعون على حساب أصحاب الأرض الحقيقيين، وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميريكية الداعم الدائم لإسرائيل على حساب سائر الدول الأخرى، وقد جاء الكيان الغاصب مولوداً غير شرعياً لهاتين الإرادتين.
“فإسرائيل” هذا الشعب المحتار، المجرّد من أية مبادئ أو قيم أو خصائل أخلاقية، مهما إمتلكت من قوة لا بد أن تزول، لأن ما بني على باطل فهو باطل، وهي دوماً في حالة قلق و إضطراب و لن تشعر يوماً بالآمان لكونها سرقت، و قتلت و تملكّـت…ثم سارعت إلى الندب و البكاء و إدعاء المظلومية.
وهنا يستحضرنا نص من العهد القديم، من سفر الملوك، الفصل 21، بعد أن تسبب الملك آخاب و زوجته إيزابل بمقتل نابوت اليزرعيلي من أجل الإستيلاء على كرمه، فأرسل الله النبي إيليا إلى الملك آخاب و قال له: ” أقتلت و أمتلكت أيضاً؟” ثم بشّره بأنه سوف يلاقي نفس مصير نابوت و في نفس المكان…
فإن كانت إسرائيل المزعومة هذه تقرأ في كتب اليهود المقدّسة، عليها أن تتعظ و ترتدع و تتحضر لمصيرها المحتوم، إذ أنه قد ينام الحق أحياناً لكنه لا يموت، ولا و لن يموت حق وراءه مطالب، و فلسطين حق للشعب الفلسطيني و مهما تنكّرت قوى الغرب لهذه الحقيقة و مهما تجبّرت “إسرائيل” و مارس جيش دفاعها الإعتداءات و الإرهاب و الجرائم، لا بد لها في النهاية من الزوال، شأنها شأن كل موجات الإستعمار التي عرفها التاريخ، فهل يكون هذا اليوم قريباً؟
المراجع:
الكتب:
-محمد المجذوب، القانون الدولي العام، منشورات الحلبي الحقوقية، الطبعة السادسة، 2007، بيروت، لبنان.
-عبد الغني عماد، ثقافة العنف في سوسيولوجيا السياسة الصهيونية، منشورات دار الطليعة للطباعة و النشر و التوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، آب، 2001.
-شفيق خليل، بنو إسرائيل عبر التاريخ، مؤسسة شمس للنشر و التوزيع، القاهرة.
-شيريب سبيريدوفتش، حكومة العالم الخفية، دار النفائس للطباعة و النشر و التوزيع، بيروت، لبنان.
– أسعد السحمراني، من اليهودية إلى الصهيونية، دار النفائس للطباعة و النشر و التوزيع، الطبعة الأولى، 1993، بيروت، لبنان.
-عدنان السيد حسين، التوسع في الإستراتيجية الإسرائيلية، دار النفائس للطباعة و النشر و التوزيع، الطبعة الأولى، 1989، بيروت، لبنان.
-ظفر الإسلام خان، تاريخ فلسطين القديم،، دار النفائس للطباعة و النشر و التوزيع، بيروت، لبنان.
-جاك تيلور، أوراق الموساد الخفية، دار الأستاذ نادر للترجمة و النشر، أكسفورد، المملكة المتحدة.
-كميل حبيب، السلم الإسرائيلي المسلّح في أساسه و أهدافه، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس، 2002.
المقالات:
– “المقاومة الفلسطينية و القانون الدولي و حقوق الإنسان”، شفيق الرشيدات، مجلة الحق، العدد الأول، يناير 1971، ص 49 إلى 63.
– “الإرهاب الصهيوني ودوره في قيام الدولة العبرية”، دلال بسما، موقع الجيش الإلكتروني.
– ” الصهيونية: خرافات و سياسة”، ي.شريبر، مجلة الحق، السنة الثانية، العدد الأول، يناير 1971، ص 64 إلى 74.
– ” يهود اليوم ليسوا يهوداً”، بنيامين فريدمان، موقع ديوان العرب الإلكتروني.
– “قيادات مغتالة من حزب الله”، موقع قناة الجزيرة الإلكتروني.
– ” ما هو مصير المقاطعة العربية لإسرائيل؟”، محمد المجذوب، مجلة الموقف، ، العدد 146،1999، ص 19 إلى 21.
المجلات و الدوريات:
-مجلة الحق الثلث سنوية الصادرة عن إتحاد المحامين العرب، السنة الثانية، العدد الأول، يناير 1971، القاهرة.
-مجلة الجيش اللبناني، العدد 44، نيسان 2003.
-مجلة الموقف، العدد 146، 1999، المركز الوطني للدراسات و الطباعة و النشر و التوزيع.
المواقع الإلكترونية:
-موقع الجيش الإلكتروني:
-موقع ديوان العرب:
-موقع قناة الجزيرة الإلكتروني:
مقابلة:
مقابلة مع المحامي فؤاد مطر، رئيس الجمعية اللبنانية لمواجهة التطبيع.
[1] شيريب سبيريدوفيتش، مرجع سابق، ص 14، 15 و 34.
[2] أسعد السحمراني، مرجع سابق، ص 200 و 201.
[3] شيريب سبيريدوفيتش، مرجع سابق، ص 34.
[4] عدنان السيد حسين، مرجع سابق، ص 39.
[5] أسعد السحمراني، مرجع سابق، ص 192 و 193.
[6] أسعد السحمراني، المرجع أعلاه، ص 199.
[7] شيريب سبيريدوفيتش، مرجع سابق، ص 35، بتصرّف.
[8] عبد الغني عماد، مرجع سابق، ص 59.
[9] عبد الغني عماد، المرجع أعلاه، الصفحة نفسها، بتصرّف.
[10] عدنان السيد حسين، مرجع سابق، ص 33.
[11] عدنان السيد حسين، المرجع أعلاه، الصفحة نفسها.
[12] عدنان السيد حسين، المرجع أعلاه، ص 35.
[13] عبد الغني عماد، مرجع سابق، ص 68.
[14] عبد الغني عماد، المرجع أعلاه، ص 68 و 69.
[15] عبد الغني عماد، المرجع أعلاه، ص 117.
[16] عبد الغني عماد، المرجع أعلاه، ص 184.
[17] كميل حبيب، السلم الإسرائيلي المسلّح في أساسه و أهدافه، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس، 2002، ص 115.
[18] عبد الغني عماد، مرجع سابق، ص 102.
[19] عبد الغني عماد، المرجع أعلاه، الصفحة نفسها.
[20] كميل حبيب، مرجع سابق، ص 116 و 117.
[21] عدنان السيد حسين،مرجع سابق، ص 41 إلى 43.
[22] كميل حبيب، مرجع سابق، ص 117.
[23] عبد الغني عماد، مرجع سابق، ص 193 إلى 195.
[24] قيادات مغتالة من حزب الله، موقع قناة الجزيرة، بتصرّف، منشور بتاريخ 22/12/2015:
[25] محمد المجذوب، ما هو مصير المقاطعة العربية لإسرائيل؟ مجلة الموقف، العدد 146، 1999، ص 20، المركز الوطني للدراسات و الطباعة و النشر و التوزيع.
[26] مقابلة مع المحامب فؤاد مطر، رئيس الجمعية اللبنانية لمواجهة التطبيع.
[27] محمد المجذوب، مرجع سابق، ص 21 و 19.
كما يمكنكم الإطلاع على الحلقات السابقة – الحلقة الأولى – الحلقة الثانية