“إسرائيل” وتزوير الواقع و التاريخ – المحامي جورج جوزيف موصللي / الجزء الأول
موقع « ستار نيوز فيجن » ينشر هذه الدراسة القيّمة للمحامي جورج جوزيف موصللي في ثلاث حلقات. كونها مرجع مهم جداً من حيث القوانين والنصوص و الأعراف الدولية.
شكّل إنشاء “دولة إسرائيل” و إعلانها بالطريقة التي جرى بها ذلك تعارضاً مع كافة الشرائع والقوانين والنصوص و الأعراف الدولية سيما و أن الكيان الغاصب قام بالسيطرة على أرض فلسطين و إحتلالها عن طريق العنف و الإرهاب و هو ما يرفضه القانون الدولي الذي لا يعترف بالواقع القائم على العدوان والحالات المبنية على عمل غير شرعي…وهذا ما يحرّمه أيضاً ميثاق الأمم المتحدة و يلزم الدول الأعضاء في المنظمة برفضه والعمل على إزالته.[1]
علماً أن إنضمام “إسرائيل” إلى الأمم المتحدة قد تم نتيجة خدعة أحكمت حبكها، وقد جاء مشروطاً، إذ أنه بتاريخ 11/5/1949 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بقبول إسرائيل، مشترطة عليها تنفيذ قراري التقسيم و إعادة النازحين. وبهذا القرار ربطت الجمعية العامة ربطاً مباشراً ومحكماً بين قبول “إسرائيل” في العضوية و بين وجوب تنفيذ هذين القرارين.[2]
وفضلاً عن تهرب “إسرائيل” من تنفيذ القرارين المشار إليهما ، فقد عمدت قبل ذلك إلى إغتيال مبعوث الأمم المتحدة إلى فلسطين المحتلة عام 1948، الكونت فولك براندوت، الذي تعرض لكمين مسلح و أطلقت النار على سيارته على يد ثلاثة من الإرهابيين اليهود وهم: يهوشا كوهين، مناحيم بيغين و إسحق شامير، و قد تولىّ كل من هذين الأخيرين لاحقاً رئاسة الحكومة في “إسرائيل”… و أعلنت عصابة “شتيرن” الصهيونية مسؤوليتها عن العملية الإرهابية رداً على مواقف الوسيط الدولي الذي رفض مجاراة الصهاينة بمطاليبهم [3]
و أنجز تقريراً بتكليف من الأمين العام للأمم المتحدة يخالف بشدة ما تريده “إسرائيل”.[4]
كما عمدت “إسرائيل” إلى ترهيب عدد كبير من ممثلي الأمم المتحدة لرفضهم الإنصياع لها، ومنهم: الأمينين العامين السابقين: كورت فالهايم و داغ همرشولد، و المبعوثين: الميجور هانس الذي عّين في جهاز المراقبة الدولية في فلسطين عام 1958، والجنرال فون هورن الذي كان كبير مراقبي الأمم المتحدة في الشرق الأوسط.[5]
وقد حاولت الحركة الصهيونية العالمية التي تقف وراء إنشاء “دولة إسرائيل” إسباغ صبغة دينية لمسألة إحتلالها فلسطين، زاعمةً وجود حق تاريخي لها في القدس وفي فلسطين ككل بصفتها “أرض الميعاد”، بإعتبار اليهود “شعب الله المختار”.
وقد حرّف الصهاينة و شوهّوا المعاني والعبارات الدينية والتاريخية وقاموا بتزوير الوقائع خدمةً لمشروعهم الإستيطاني وتغطيةً لجرائمهم سواء في أرض فلسطين أو في سائر أنحاء العالم، فهذا الشعب ما حلّ بمكان إلاّ و إفتعل المشكلات و القلاقل ونتجت عنه أفظع الجرائم التي تقشعّر لها الأبدان.
وبين الثوب الديني المزعوم و الأهداف الإستعمارية و التوسّعية، هل كان اليهود فعلاً أمة مختارة؟ بل هل كانوا أمة من الأساس؟ هل حكموا أرض فلسطين فعلاً أو وعدوا بها حقيقةً؟ وهل يهود اليوم يمتّون بأية صلة إلى يهود العهد القديم؟ وهل هم شعب الله المختار كما يدّعون؟ وماذا عن واقع إسرائيل المزعومة اليوم؟ كل هذه الإشكالات سوف نعالجها في متن بحثنا الراهن.
القسم الأول: التاريخ المحرّف و الأسطورة الدينية المختلقة
الباب الأول: الوعد المزعوم لأمة غير موجودة
عرف بنو “إسرائيل” بمغالاتهم وميلهم إلى تضخيم أزماتهم و معاناتهم وقد لازمتهم هذه الطبيعة مدى حياتهم، ويقول فيها بعض علماء النفس أنها ترجع في أساسها إلى رغبتهم في إستدرار العطف و الشفقة عبر اللجوء إلى الكذب و تزوير الحقائق و الإدعاءات التي لا أساس لها، فباتت هذه الطبيعة تسيطر على حياتهم اليومية وعلى آدابهم و ثقافتهم.[6]
وقد عمد اليهود إلى نشر أفكارهم من خلال سطوتهم على وسائل الإعلام وعملوا على توجيه وتعليب الرأي العام العالمي، غير أنه و في الواقع، فإن كافة مزاعم اليهود هي عرضة للتشكيك وقد عمل عدد كبير من الباحثين على فضحها و إظهار عدم صدقيتها المطلقة، بدءً بأصل يهود اليوم ومدى إنتسابهم الفعلي إلى يهود الأرض المقدّسة، إذ تؤكد معظم المصادر أن يهود اليوم ليسوا ساميين ولا عرفوا لا هم ولا أجدادهم الأرض المقدّسة وهناك أكثر من علامة إستفهام حولهم وحول أصلهم، وصولاً إلى كون الأمة اليهودية التي إتخذتها الصهيونية كدافع أساسي لحركتها السياسية و تشجيع العودة المزعومة إلى فلسطين، هذه الأمة لم تكن موجودة يوماً…
إن “الأمة اليهودية العالمية” التي تدّعي الصهيونية بأنها تمثلها لم يكن لها وجود على الإطلاق. ففي الأزمان الغابرة، عندما كان اليهود يعيشون مجتمعين إلى حد ما، لم يكونوا ” أمة عالمية” أو “أمة” على الإطلاق شأنهم في ذلك شأن أية مجموعة عرقية في ذلك الوقت وعندما ” شتتوا في أنحاء العالم” حرموا من إمكانية صيرورتهم أمة لأنهم فقدوا وحدتهم و تجانسهم.
إن إدعاءات مبتدعي الصهيونية بشأن ” الدم اليهودي القديم” و بأن يهود اليوم هم سلالة قدامى العبرانيين، تواجه أشد الإعتراضات جدّية.[7]
و في هذا الإطار يشير السياسي الأميريكي ذو الأصول اليهودية بنيامين فريدمان إلى أن اليهود عمدوا عبر أسلوب المكر و الخداع إلى توجيه الرأي العام العالمي ليغرزوا في العقول الغربية على وجه الخصوص كذبة أن من يدعّون يهوداً في كل مكان من عالم اليوم، هم من الناحية التاريخية يتحدرّون ممن يسمى الشعب المختار للأرض المقدسّة في العهد القديم. لكن أرفع المراجع و المستندات العلمية الخاصة بهذا الموضوع تؤكد على حقيقة موضوعية مدركة على الوجه الأفضل، وهي أن من يزعمون أنفسهم يهوداً في كل مكان من عالم اليوم ليسوا من الوجهة التاريخية الصحيحة من سلالة الذين عرفوا بيهود الأرض المقدّسة في تاريخ العهد القديم.[8]
و من المعروف تاريخياً أنه كان لليهود دولة بمعنى الدولة، في زمن الملك سليمان فقط، ومنذ سنة 587 قبل الميلاد، حينما أغار نبوخذنصّر على مملكة يهوذا و ساق أهلها أسرى إلى بابل، لم يستطع اليهود إقامة دولة رغم محاولاتهم المتكررة التي كان يعقب كلاً منها تشتت جديد وتشرّد في مختلف أنحاء العالم. وهناك في بابل (في الأسر) إخترع زعماؤهم فكرة “الوعد” ورسّخوا في أذهانهم خرافة “شعب الله المختار” ليحافظوا على وحدة الشعب وصفائه العنصري ويعيدوا إليه ثقته في نفسه.[9]
و في حين حاول اليهود تبريراً لمزاعمهم أن يصنعوا شكلاً من الربط التاريخي المفجع مع أورشليم، بحيث تدور حولها أحداثهم التاريخية من نفي و سبي و تشريد، وعملوا على التغرير بيهود العالم ليصدّقوا أكذوبتهم بأن القدس حق لهم[10]، فإن نقاشات الصهيونيين أنفسهم تدحض هذا الأمر إذ أنهم وخلال المؤتمرات التي عقدوها للبحث في مكان إقامة دولتهم درسوا عدة خيارات بديلة عن فلسطين.
وقد تحدث تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، في كتابه “دولة اليهود” عن بلاد الأرجنتين كوطن محتمل لليهود، كما فكّر في إمكانية إستيطان الموزنبيق أو أوغندا في أفريقيا، فقال:
” سنأخذ ما يعطى لنا، وما يختاره الرأي العام اليهودي… فالأرجنتين من أخصب بلاد العالم، وهي ممتدة على رقعة شاسعة قليلة السكان معتدلة المناخ…و فلسطين وطننا التاريخي الذي لا ينسى، و إن مجرّد إسم فلسطين يجذب شعبنا بقوّة ذات فعالية عجيبة.”[11]
كما ينسب أيضاً لهرتزل قوله في هذا الإطار:
” إذا حصلنا يوماً على القدس، وكنت لا أزال حياً وقادراً على القيام بأي شيء، فسوف أزيل كل شيء ليس مقدّساً لدى اليهود فيها و سوف أدمّر الآثار التي مرّت عليها القرون.”[12]
وبذلك يتأكد أن الإرتباط الخاص المزعوم بين يهود العالم و فلسطين ليس سوى إدّعاءً صهيونياً تدحضه نقاشات الصهيونيين أنفسهم عندما درسوا في المؤتمرات الصهيونية المتتالية بدائل عديدة لأرض فلسطين، تكون بمثابة الوطن القومي لليهود.[13]
وبعيداً عن الدعاية و الرواية الصهيونية الزائفة، تؤكد الوقائع التاريخية و نصوص العهد القديم بأن مدينة القدس كانت منذ خمسة آلاف عام مدينة عربية كنعانية، وقد بقيت بيّد سكانها اليبّوسيين أكثر من ألفي عام قبل عهد موسى وبقيت بيد أهلها ثلاثمائة عام بوجود الموسويين في فلسطين، ثم بعد دخول اليهود إليها في عهد داوود بقي سكانها على أراضيهم و في بيوتهم، وعاش اليهود في فترة وجودهم أقلّية بينهم حتى تم سبيهم إلى بابل في عهد الكلدانيين، فعاد سكان أورشليم و إستقلّوا بمدينتهم إستقلالاً تاماً.
وإذا ما أكملنا المسيرة التاريخية للقدس نجد أنها كانت عاصمة لإحدى أهم الكنائس المسيحية و فيها عقد التلامذة أول مجمع كنسي، إنها كنيسة أورشليم، وبعد أن نفاهم القائد الروماني تيطس لم يعودوا إليها.
والقدس عربية بعد الفتح في زمن الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاّب…وهكذا عاشت القدس عربية و إستمرّت و لم يقم فيها نفوذ لكيان سياسي يهودي.[14]
وبحسب المؤرّخ الإنكليزي جفريز، فإن: ” إمتلاك اليهود لفلسطين، بكل معنى حقيقي من معاني كلمة الإمتلاك، لم يكن في يوم من الأيام كاملاً، و أنه إنما ظلّ في رقعة داخل حدودها طوال مدة السبعين عاماً.”[15]
يتبيّن من كل ما تقدم بأن اليهود لم يحكموا فلسطين كلها يوماً من الأيام، والفترة التي أقاموا فيها مملكة كانت قصيرة جداً، وهي مملكة داوود و سليمان، و ما عداها لم يكن أي نفوذ أقاموه يتجاوز المدينة أو القرية… ولم يشكلوا في يوم من الأيام أكثرية في فلسطين، وليسوا هم سكانها الأصليون و إنما كان وضعهم فيها دائماً كوضعهم اليوم أي غزاة و محتلّين، و أن اليهود الذين قدموا إلى إسرائيل مهاجرين من دول أوروبا الشرقية و روسيا و غيرها لا يمتّون بصلة إلى العرق السامي أو لليهودية بصلة.[16]
وعليه، لا بد من التأكيد بأن لليهودية أتباعاً من أمم و قوميات متعددة، وليس هؤولاء القوم أمة دون الناس و لم يكونوا، ولا أقاموا كياناً سياسياً خاصاً بهم لا في القدس ولا في فلسطين ولا في غيرها… و إن الزعم بأن ليهود العالم حقاً تاريخياً في فلسطين غير صحيح، فيهود العالم لا يشكّلون أمة منفردة و إنما هم أفراد في الأمم التي يعيشون فيها و يتكلمون لغاتها. كما أن التاريخ و علم الأجناس و القانون لا يقر هذا الإدعاء في تبرير العودة إلى فلسطين.[17]
ولكن اليهود لا يأبهون بهذه الحقائق، فهم أكثر الشعوب تعصّباً و أكثرهم نشاطاً في نشر الأكاذيب التي لفقّوها بأنفسهم عن تاريخهم و حضارتهم المزعومة.
لقد عملوا منذ أقدم العصور على تضخيم تاريخهم تضخيماً عظيماً، وقد نحتوا بأنفسهم الأكاذيب عن عظمتهم المزعومة وظلوا يرددونها حتى أصبحوا أسرى تلك الأكاذيب نفسها.[18]
[1] شفيق الرشيدات،المقاومة الفلسطينية والقانون الدولي وحقوق الإنسان، مقالة منشورة في مجلة الحق الثلث سنوية، الصادرة عن إتحاد المحامين العرب، السنة الثانية، العدد الأول، يناير 1971، القاهرة، ص 53 و 54.
[2] محمد المجذوب، القانون الدولي العام، منشورات الحلبي الحقوقية، الطبعة السادسة، 2007، ص:240.
[3] دلال بسما، الإرهاب الصهيوني ودوره في قيام الدولة العبرية، مجلة الجيش اللبناني، العدد 44، نيسان 2003، منشورة على موقع الجيش الإلكتروني:
[4] عبد الغني عماد، ثقافة العنف في سوسيولوجيا السياسة الصهيونية، منشورات دار الطليعة للطباعة و النشر و التوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، آب 2001، ص: 193.
[5] دلال بسما، مرجع سابق.
[6] شفيق خليل، بنو إسرائيل عبر التاريخ،مؤسسة شمس للنشر و الإعلام، القاهرة، ص 39( بتصّرف).
[7] ي.شريبر، الصهيونية: خرافات و سياسة، مجلة الحق ثلث السنوية، الصادرة عن إتحاد المحامين العرب، السنة الثانية، العدد الأول، يناير 1971، القاهرة، ص 64 و 65.
[8] بنيامين فريدمان، يهود اليوم ليسوا يهوداً، مقال منشور على موقع ديوان العرب:
[9] شيريب سبيريدوفيتش، حكومة العالم الخفية، ترجمة مأمون سعيد، دار النفائس للطباعة و النشر و التوزيع، بيروت، لبنان، ص 9 و 10.
[10] أسعد اسحمراني، من اليهودية إلى الصهيونية، الفكر الديني اليهودي في خدمة المشروع السياسي الصهيوني، دار النفائس للطباعة و النشر و التوزيع، الطبعة الأولى، 1993، بيروت، لبنان، ص 48 و 49.
[11] عدنان السيد حسين، التوسع في الإستراتيجية الإسرائيلية، دار النفائس للطابعة و النشر و التوزيع، الطبعة الأولى، 1989، بيروت، لبنان، ص 30 و 31.
[12] أسعد السحمراني، مرجع سابق، ص49 .
[13] عدنان السيد حسين، مرجع سابق، ص 31 .
[14] أسعد السحمراني، مرجع سابق، ص 50.
[15] ظفر الإسلام خان، تاريخ فلسطين القديم، دار النفائس للطباعة و النشر و التوزيع، بيروت، لبنان، ص 50.
[16] شيريب سبيريدوفيتش، مرجع سابق، ص 19 (بتصرف)
[17] أسعد السحمراني، مرجع سابق، ص 51.
[18] ظفر الإسلام خان، مرجع سابق، ص 50 و 51.