عفلق المُفتري!
يتضمن كتاب الزميل سليمان الفرزلي “علامات الدرب ــ سيرة ذاتية”، الصادر عن دار “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” (لندن 2013)، كثيراً من الإشارات إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي من خلال مرويات متعددة عن بعض القوميين الاجتماعيين من منطقة البقاع الغربي التي هي مسقط رأسه (في بلدة القرعون). وبين هؤلاء القوميين عدد من أقربائه. والواقع أن كلام الفرزلي عن الحزب وأعضائه إيجابي بصورة إجمالية، وموضوعي جداً حينما يتطلب الأمر ملاحظات نقدية محدودة.
وتجدر الإشارة إلى أن الفرزلي كان مقرباً جداً من قياديي حزب البعث العربي الاشتراكي، وإن لم ينتسب إليه كما يؤكد في أكثر من مكان في هذا الكتاب. وتولى خلال حياته الصحافية المديدة والغنية رئاسة تحرير عدد من الصحف التي دعمها الجناح العراقي في حزب البعث منها “الأحرار” و”الكفاح” و”بيروت”، ما أتاح له لقاء كبار المسؤولين الحزبيين (خصوصاً في العراق). وكان ميشال عفلق، أحد مؤسسي حزب البعث، من أبرز الذين ربطتهم علاقات عملية وفكرية مع الفرزلي. ولذلك لم يكن غريباً أن يتضمن الكتاب مجموعة مهمة من المعلومات عن عفلق ومواقفه من الأحداث والأشخاص في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
وكان من الطبيعي أيضاً أن يدور بين عفلق والفرزلي حديث عن الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه أنطون سعاده. ولسنا هنا في معرض التعليق على كل ما ورد في هذا السياق. لكن إحدى الفقرات تستدعي التوقف ملياً عندها لأنها ترتبط بالرؤية الإيديولوجية التي يقدمها مؤسس البعث لمسألة العروبة وعلاقتها بالإسلام مقارنة برؤية سعاده إلى العروبة وعلاقتها بالإسلام. وهذه مسألة إشكالية لا تعود فقط إلى تلك الفترة بل هي في أساس الأزمات المصيرية التي تعانيها أمتنا وعالمنا العربي في هذه المرحلة.
جاء في الصفحتين 307 و308 من كتاب الفرزلي ما يلي:
“ورأيت من المناسب في تلك اللحظة أن أسأله عن الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي كنت اعتبره أحد الأحزاب القليلة غير الطائفية في لبنان، ففاجأني بالقول:
“إن هذا الحزب حزب طائفي مقنّع على الرغم من تعدد الطوائف بين منتسبيه”.
قلت له: “وكيف ذلك؟”
قال: “هناك سببان جوهريان: أولهما أنه لا يأخذ بمفهوم العروبة، وبالتالي فهو في موقف سلبي من الإسلام الذي يشكل العنصر المركزي بين عناصر العروبة. وإلا فإن القبول بالإسلام دون العروبة، يجعل القابلين به على هذا النحو مثل ملايين المسلمين غير العرب، خارج الإطار التاريخي للأمة العربية. والسبب الثاني هو القبول بالثقافة العربية كرافد فرعي، باعتبار أن الأصول الفكرية للقومية السورية هي أصول غير عربية، أو هللينية بنوع خاص، تنضم إليها روافد أخرى من الأصول التاريخية البعيدة، فلا امتياز حتى للرافد العربي إلا كونه أمراً واقعاً، أو كونه آخر تلك الروافد، بينما العروبة والثقافة العربية، وقلبها الإسلام، هما الأصل والأساس، وكل ما عداهما فروع وإضافات”.
لا يوجد أي سبب يدفعنا إلى الشك في صحة هذا الكلام. فالزميل الفرزلي دقيق جداً في كل ما يسرده في الكتاب، وكانت علاقته وثيقة جداً بعفلق ويعرف بالتفصيل آراءه الفكرية والسياسية. وقد كان يسجل في مفكرته الخاصة تفاصيل عن لقاءاته، وملاحظات ومقتبسات وانطباعات عمن يحادثهم. كما أن فكرة عفلق عن العروبة والإسلام كانت معروفة منذ ألقى خطاباً بعنوان “في ذكرى الرسول العربي” على مدرج جامعة دمشق في نيسان سنة 1943. ويضاف إلى ذلك أن مؤسس حزب البعث نفسه، في سنواته الأخيرة في بغداد، أعاد توكيد هذه الأفكار بصورة أكثر وضوحاً. بل وصل به الأمر إلى حد اعتناق الإسلام كـ “خطوة لا بد منها لاستكمال عروبته”!
ليس من المهم، أولاً، أن نعلق على عبارته القائلة إن الحزب السوري القومي الاجتماعي هو “حزب طائفي مقنّع”. فهذا كلام لا قيمة فعلية له لأنه نابع من أعماق مشاعر الحقد البعثي العفلقي على الحزب وزعيمه منذ أربعينات القرن الماضي. فمع أن عفلق يقر بـ “تعدد الطوائف بين منتسبيه”، إلا أن الحزب بالنسبة إليه “طائفي” لعدم حمله رؤية عرقية مذهبية لمفهوم العروبة كما روّج لها العروبيون على مختلف مشاربهم الإيديولوجية. وهذا ما ينقلنا إلى النقطة التالية التي تستحق بالفعل نقاشاً يبدو، في ظروفنا القومية الراهنة، أكثر إلحاحاً لأنه يمس وجودنا القومي الاجتماعي في الصميم.
نريد أن نركز في هذه المقالة الموجزة على العامل الثقافي السوري كما يراه سعاده، ومقارنته بعبارة عفلق: “العروبة والثقافة العربية، وقلبها الإسلام، هما الأصل والأساس، وكل ما عداهما فروع وإضافات”. ولنا في هذا المجال مصدران: الأول حياة سعاده الشخصية مع عائلته تحديداً. فمن الثابت أنه حرص، وهو في مغتربه القسري بالأرجنتين، على أن لا يكلم ابنتيه صفية وإليسار إلا باللغة العربية الفصحى. وقد بذل جهداً كبيراً لتمكين زوجته جولييت المير من اتقان العربية، وهي التي كانت قد فقدتها تقريباً نظراً إلى طول سنوات الهجرة في الأرجنتين. ولا يمكن لشخص أن يُقدم على هذه الخطوات إلا إذا كان محباً للغته القومية (وهي العربية في هذه الحال). كما أن نتاج سعاده الفكري والأدبي الواسع يُظهر تضلعاً عميقاً باللغة العربية وآدابها المتنوعة.
المصدر الثاني هو النصوص التي وضعها سعاده، خصوصاً في المبادئ الأساسية للحزب السوري القومي الاجتماعي. فقد جاء في المبدأ الأساسي السابع: “تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي (…) وبما خلده سوريون عظام كزينون وبار صليبي ويوحنا فم الذهب وأفرام والمعري وديك الجن الحمصي والكواكبي وجبران وطائفة كبيرة من مشاهير الأعلام قديماً وحديثاً”. ثم يوضح سعاده في إطار هذا المبدأ أنه “إذا لم تقوَ النفسية السورية وتنزه عن العوامل الخارجية وسيطرة النفسيات الغريبة، فإن سورية تبقى فاقدة عنصر الاستقلال الحقيقي وفاقدة المثل العليا لحياتها”.
يبدو لنا أن عفلق، من حيث يدري أو من حيث لا يدري (والأرجح أنه يدري!)، ينتظم في واحدة من نزعتين عروبيتين كانتا منتشرتين في الأدبيات البعثية المختلفة، وهما: العروبة الإسلامية والعروبة العنصرية. وأقطاب هاتين النزعتين (من البعثيين والناصريين والقوميين العرب) يقيمون قطيعة تاريخية، اجتماعياً وثقافياً، مع ثلاث آلاف سنة قبل الفتح الإسلامي في سورية الطبيعية ووادي النيل، وكذلك في بلاد فارس وما وراء النهر في أواسط آسيا. ميزة سعاده أنه لم يلجأ إلى المنطق الإلغائي، فهو يعتبر أن التفاعل الأفقي والعمودي في المتحد القومي كفيل بدمج الروافد الثقافية المختلفة ليتم توليد ثقافة جديدة تحمل هوية المجتمع كله وليس هوية أصل منفصل من أصوله.
حمل الفتح العربي الإسلامي إلى سوريا (وإلى وادي النيل وبلاد فارس… وغيرها) عنصرين أساسيين أحدثا تغييراً جذرياً في المسار القومي لتلك البلاد، وهما عنصران متلازمان لا فكاك بينهما على الإطلاق من وجهة النظر الإسلامية: القرآن واللغة العربية. هناك بلدان عدة تقبّلت الإسلام واللغة العربية معاً (سوريا منها)، بينما تقبّلت بلدان أخرى الإسلام والحرف العربي من دون اللغة (بلاد فارس ومناطق الأناضول التركية)، في حين تقبّلت جماعة ثالثة الإسلام من دون العربية لغة وحرفاً (دول أواسط آسيا). وهذا التباين يحتاج إلى تناول أكثر دقة وتفصيلاً سنعود إليه في مقالات لاحقة.
الأبحاث الاجتماعية تؤكد أن التغيير الديني والثقافي في مرحلة معينة لا يلغي ما سبقه. حتى الإسلام نفسه، وقد أتى لينقل شبه الجزيرة العربية “من حالة الجاهلية إلى رحاب التوحيد”، أبقى على كثير من عادات وتقاليد فترة ما قبل الرسالة المحمدية لكن بعد أن حوّل وجهتها من الشرك إلى التوحيد. والقرآن غني بالإحالات إلى “الكتب السماوية” السابقة له، وهو يحث المؤمنين على الإطلاع عليها والاتعاظ بما تحمله من قيم روحية واجتماعية. وحتى الدولة الإسلامية الأولى، في ظل الأمويين، كانت مضطرة للإستعانة بالأنظمة وترتيبات الحكم التي كانت منتشرة في سوريا قبل أن يطوّر المسلمون لاحقاً مفاهيم سياسية وثقافية واجتماعية تحمل طابعهم الخاص.
لم تختفِ الثقافة السورية بمجرد اختلاط الفاتحين العرب بالسكان الأصليين. فالتمازج والإندماج هما من السمات الأساسية للمجتمعات القومية الحيّة. والثقافة السورية بكل روافدها التي تعود إلى أكثر من 2500 سنة قبل البعثة المحمدية ما كانت لتزول من وجدان الشعب بين ليلة وضحاها، وإنما وجدت طريقها إلى المجتمع القومي الناشئ الحامل لغة جديدة هي العربية، الخاضعة لسنة التطور ضمن المدى الذي قد يسمح به الارتباط الوثيق بين القرآن واللغة التي أنزل بها.
سعاده يرفض مبدأ الخروج من التاريخ أو القطيعة المطلقة مع الماضي، لأنه يؤمن بخط ثقافي يربط الفكر السوري على مرّ الأجيال. ذلك أن تاريخنا الثقافي القومي لم يبدأ مع إطلالة الدفعة الأولى من الناطقين باللغة العربية، وإبداعاتنا لا تقتصر على قصائد تحّن إلى أطلال دارسة. خط الفكر السوري يمتد من ملحمة جلكامش التي صاغها شاعر سومري على ضفاف دجلة، مروراً بشرائع أورنمو ولبت عشتار وحمورابي… وصولاً إلى المعري وديك الجن الحمصي وجبران خليل جبران وبدر شاكر السياب. لقد عبّر السوريون عن عطائهم الحضاري بالآكادية ــ البابلية وقتما كانت تلك اللغة لسانهم القومي. ثم استخدموا الآرامية عندما أصبحت لغتهم القومية على مدى أكثر من ألف وخمس مائة سنة. وها هم الآن، ومنذ ألف وخمس مائة سنة أيضاً، يستخدمون العربية لغة حياة وحضارة.
هذه هي الروافد الحضارية ذات التنوع الغني التي لا يلغي أحدها الآخر، والتي يرى سعاده أنها ــ مجتمعة ــ تفولذ في المتحد القومي فضائل التضامن والإخاء. في حين أن منطق عفلق، كما نعاينه ونعانيه اليوم على أرض الواقع، لا يؤجّج سوى نقائص التشاحن والبغضاء!
أحمد أصفهاني – لندن