متحف فرحات شاهد على التاريخ ..تحويل المعاناة إلى رسالة فنية ..معتقل الخيام جدران تروي قصصًا من الذاكرة والفنّ
خاص ستار نيوز فيجن – مريم بيضون
في مَمَرِّ الصَّمت، بين جُدرانٍ حَمَلَت في طيَّاتِها الألم والمُعاناة، وُلدت قِصَّة تحوُّل فنيّ، أعادَ الحياة لِذِكرى كانت على وشك الاندثار.
مُعتَقَل الخيام، الذي كان رمزًا للوحشيَّة والقهر، وشاهِدًا على سنواتٍ من العذاب، لا يَخْلُو من الوجع والظُّلم. لكن، داخل تلك الجدران الصَّامِتة، أُضيءَ الفنّ ليُحوِّل الألم إلى لحنٍ من الإبداع، ويكتُب التَّاريخ بِلُغَةِ الألوان والأنغام.
منذ البداية، كان الهدف ليس مُجرَّد استعادة الذكريات، بل إحياءها بطريقة جديدة تبُثّ الأمل والتجدُّد. كيف يمكن للمكان الذي امتلأ بِصُراخ المُعذبَّين أن يتحوَّل اليوم إلى مِساحَةٍ للإبداع؟ وكيف يمكن للألم أن يُصبِح قصيدة بصريَّة تظلّ خالِدة في الذَّاكِرة؟ هُنا تكمُن قُوَّة الفنّ في قُدرَتِه على مُقاومَة النسيان، وتحويل الحزن إلى جمال، والوجع إلى شهادة لا تموت.
اليوم، يُعيد الفنّ تشكيل ذاكرة معتقل الخيام، حيث تُصبِح تلك اللوحات أكثر من مُجرَّد أعمال فنّية، بل هي رسائل تتنقل عبر الأجيال، تشهد على قدرة الإنسان على التحوُّل والتعافي من أحلك لحظات حياته.
أصبحت الجدران التي كانت غارِقة في الدُّموع، تُزيِّنها ألوان تعكس القُوَّة والصُّمود، لِتُعلِن: “هذه هي ذاكرتنا، وهذه هي شهادتنا”.
في حديثٍ خاص عن مشروع مُتحَف فرحات وتوثيق تجربة معتقل الخيام فنّيًا، تحدَّثَ مُؤسِّس المُتحَف، نعيم فرحات، عن دوافِعِه وراء تبنّي هذه المُبادرة، مُوضحًا أنَّ الفكرة لم تكن مُجرَّد توثيق بصري، بل كانت محاولة لإحياء الذاكرة بأسلوبٍ يتجاوز السَّرد التقليدي.
وقال فرحات: “لطالما آمَنتُ أنَّ الفنّ ليس مُجرَّد وسيلة للتعبير، بل هو قُوَّة قادرة على مُقاومة النسيان وتحويل الألم إلى شهادة بصريَّة لا تموت”.
وأشارَ فرحات إلى أنَّ “معتقل الخيام، يُعدّ من أبرز الشواهد على مُعاناة الأسرى والمُقاومين في جنوب لبنان، حيث شَهِدَ فُصولًا من الألم والقهر خلال فترات الاحتلال. ومع تحرير الجنوب في عام 2000، ظهرت فكرة تحويل هذا المكان من رمزٍ للمعاناة إلى مساحة للإبداع والتعبير الفنيّ. ومِن هنا وُلِدَ مشروع فنّي ثقافي يهدُف إلى إعادة تعريف الذاكرة الجماعية وتحويل التاريخ المؤلم إلى مصدر إلهام وتوثيق فنّي يروي حكاية المُعتقلين بأسلوبٍ إبداعي يتجاوز الحدود”.
يهدف هذا اللقاء إلى تسليط الضوء على تجربة فريدة جَمَعَت فنانين من مختلف أنحاء العالم، حوَّلَت جدران المعتقل إلى لوحات فنّية ناطِقة، تتحدَّى النسيان وتُحافِظ على ذاكرة المكان للأجيال القادِمة.
كيف نشَأَت هذه المُبادرة؟ وما تأثيرها على المشهدين الفنّي والثقافي في لبنان والعالم؟
معتقل الخيام هو جزء من مشروع أوسع يُسلِّط الضوء على مدينة الخيام، التي تحمل في جدرانها ذاكرة المقاومة والمعاناة، وتسعى اليوم إلى التحوُّل إلى رمزٍ للإبداع والفنّ. لكن قبل التطرُّق إلى المستقبل، من الضَّروري العودة إلى الجذور، إلى اللحظة التي وُلِد فيها هذا المشروع.
أشار فرحات إلى أنه في عام 2000، بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، بدأت فكرة تحويل معاناة الماضي إلى شيء إيجابي. وكان الفنان فؤاد شهاب آنذاك (أستاذ في الجامعة اللبنانية)، هو صاحب هذه الرؤية، حيث اقترح تسليط الضوء على تجربة مُعتقل الخيام من خلال الفن.
لم تكن تلك الفكرة مُجرَّد اقتراح، بل كانت محاولة لتجاوز الألم بالإبداع، ليصبح التاريخ وسيلة للتحرُّر بدلاً من أن يكون عِبئًا على النفوس.
في ذلك العام، تمَّ دعوة خمسة وعشرين فنانًا من لبنان للمشاركة في سمبوزيوم لتحويل المُعتقل إلى مساحة مفتوحة للإبداع والتعبير. لم يكن الهدف مُجرَّد رسم لوحات أو نحت تماثيل، بل كان السعي لإعادة تعريف المكان وتحويله من رمز للقهر إلى شهادة على قدرة الإنسان على تحويل الألم إلى جمال.
مع مرور الوقت، وتحديدًا في عام 2002، توسَّعَ المشروع ليشمل فنانين من مختلف أنحاء العالم العربي وأوروبا أيضًا. تمَّ دعوة مجموعة من الفنانين الذين تجاوزوا الستّين عاماً، وهم أصحاب تجربة فنية غنية وعميقة، وجاءوا من شمال إفريقيا والخليج العربي وبلاد الشام، بالإضافة إلى فنانين من هولندا وإيطاليا وبلجيكا والدنمارك.
وأضاف فرحات أنَّ الهدف لم يكن مُجرَّد عرض الأعمال الفنية، بل كان هناك بُعد توثيقي مُهمّ، إذ تمَّ تصوير وتوثيق كافة الأعمال ونشرها عبر المنصات الإلكترونية، مِمَّا جعل المشروع يَصِل إلى جمهور عالمي. وقال: «لم نَكُن نتوقَّع أن تلقى هذه المُبادرة صدى كبيرًا خارج لبنان، لكِنَّنا فوجِئنا بمتابعة من دول مثل الولايات المتحدة الأميركية والصين، حيث رأى الناس في هذه التجربة انعكاسًا عالميًا لفكرة المقاومة عبر الفن».
فنّ المقاومة.. توثيق تاريخ المعتقل عبر اللوحات والأعمال الفنية
وتابع:« تمّ توثيق هذا العمل من خلال صور وفيديوهات منشورة على صفحة المتحف تحت عنوان “مُعتقل الخيام”، حيث يمكن للجميع مشاهدة أعمال الفنانين الذين حوَّلوا المُعتقل إلى مُتحَف مفتوح يروي قِصَّة المُعتقلين، أولئك الذين عاشوا خلف جدرانه سنوات من العذاب، ثم خرجوا ليحملوا جراحهم إلى العالم.»
وتابَعَ قائلاً: «يُعَدّ مُعتَقَل الخيام واحدًا من أبرز الأماكن التي شَهِدَت فصولًا مريرة من القمع والتعذيب في تاريخ لبنان الحديث. تمّ تأسيسه في عام 1933 خلال فترة الانتداب الفرنسي ليكون مركزًا لاحتجاز وتعذيب الثُوَّار الذين ناضَلوا ضِدّ الاستعمار. ومع الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، أُعيد استخدام المُعتقل كأداة جديدة للقمع والوحشية.
داخل جدرانه، عاش الأسرى معاناة لا توصف وتعرَّضوا لأبشع أنواع التعذيب، حيث فُقِدَت أرواحًا عديدة، بل إنَّ بعض النساء أنجبن أطفالهن في زنازينه، مِمَّا جعله رمزًا صارِخًا للقهر والمعاناة.»
لم تَكُن فكرة توثيق هذه المعاناة فنيًا مجرد محاولة للحفاظ على التاريخ، بل كانت وسيلة لإعادة سرد القصة من خلال رؤية جديدة، رؤية إبداعية تُحوِّل الألم إلى ذاكرة بصريَّة لا تُنسى. وهُنا برز دور مجموعة فرحات الفنية، التي كانت من أوائل المجموعات التي عَمِلَت على نشر الأرشيف الفنّي للمُعتقل إلكترونيًا، لِيَصِل إلى مختلف أنحاء العالم.
من محلي إلى عالمي: صدى مشروع متحف فرحات في العالم
حقَّقَت هذه المجموعة تأثيرًا واسعًا، حيث وصل عدد المتابعين إلى أكثر من مليون شخص حول العالم، مع تزايد عدد الزوار الأسبوعيين الذين يتصفَّحون الموقع للاطلاع على الصور والفيديوهات والمقالات التي تُوثِّق التجربة الفنية في المُعتقل. كما لاقَت مُتابعة كبيرة من الصين والولايات المُتّحدة الأميركية، مِمَّا يعكس الاهتمام العالمي بالفنّ كوسيلة للتعبير عن القضايا الإنسانية.
على صعيد المعارِض، شَهِدَت بيروت، التي كانت تُعَدّ عاصمة الثقافة في الشرق الأوسط، تنظيم العديد من المعارِض التي وثَّقَت هذه التجربة، بفضل جهود شخصيات بارزة مثل السيدة ديمارال، التي نظَّمَت معارض تناولت الفن الفلسطيني، بما في ذلك توثيق السيرة الفلسطينية وتجربة سجن عسقلان.
كانت هناك دائمًا محاولات للحفاظ على المجموعة الفنية بأكملها، حيث أن فقدان أي عمل منها يعني فقدان جزء من الذاكرة. كان هناك اهتمام كبير من قِبَل الشباب الذين عملوا على المشروع لضمان استمراريته بشكل متكامل، إذ كان الهدف منذ البداية هو إنشاء متحف خاص بمجموعة معتقل الخيام. ورغم أن المشروع لم يتحقَّق بعد، إلا أنَّه لا يزال يُشكِّل أملًا للمستقبل.
من بين الأعمال التي كان من الصعب الحفاظ عليها، كانت منحوتة عزّت مزهر الضخمة التي تعرَّضَت للتدمير. إلَّا أنَّ الفنان نفسه أعاد إنتاجها لاحقًا، في محاولة لإحياء العمل الذي كان شاهدًا على تجربة المُعتقلين. تلك المُحاولات تجعل الأرشيف الفنّي أكثر من مُجرَّد مجموعة من الأعمال، بل شهادة حيَّة على التاريخ.
الذاكرة لا تُمحى.. استمرارية الفنّ كمصدر للإلهام والتعلم للأجيال القادمة
في السنوات الأخيرة، ومع التطورات السياسية والثقافية في المنطقة، أصبحت الحاجة للتوثيق الفني أكثر إلحاحًا، خصوصًا مع التحولات التي تشهدها مدينة الخيام. كان هناك عمل بعنوان “For Whom the Bell Tolls”، الذي استوحى اسمه من الرواية الشهيرة، وتناول قِصَّة شاب لبناني من الجنوب قرع الجرس ليُعلِن عن الكارثة التي حلَّت بالمدينة. كان العمل يعكس الدمار الذي لَحِقَ بالمُعتقل، وهو لم يكن مُجرَّد تدمير لمبنى، بل كان محاولة لِطَمس الذاكرة.
لكن الذاكرة لا تُمحى بسهولة. هناك مشاريع جديدة تُنتج حول هذا الموضوع في مجالات الشعر والكتابة والفنّ، لأنَّ التاريخ لا يُمكِن أن يُدفَن، بل يعود ليظهر في أشكال جديدة. ومن هنا تبرز أهمية التوثيق، فهو الوسيلة التي تُتيح للأجيال القادِمة فهم الماضي والاستفادة منه في بناء المستقبل.
تستمرّ مجموعة مُتحَف فرحات في التوسُّع رغم التحدّيات، في سعيها للحفاظ على هذه الذاكرة. لكن يبقى السؤال: كيف يُمكن لهذه الجهود أن تتحوَّل إلى مشروع مُؤسَّساتي يحظى بالدَّعم اللازم؟ رُبَّما يكمن الحل في أن تتبنَّى إحدى المؤسَّسات الوطنية هذا المشروع، لضمان استمراريته وحمايته من الاندثار.
في النهاية، كما نقول دائمًا: من لا ماضٍ له، لا حاضر له، ولا مُستقبل. هذه المجموعة ليست مُلكًا لفرد، بل هي إرث جماعي يجب الحفاظ عليه للأجيال القادمة. إنَّها جزء من الثقافة اللبنانية والعربية بشكل عام، ومن الضروري العناية بها ودراستها وتحليلها، لكي تظل شاهدًا على التاريخ، ولتكون مصدرًا للتعلُّم لكل من يرغب في فهم كيف يمكن للفنّ أن يكون سلاحًا ضدّ النسيان.