آراء ومقالات

الدكتورة مفيدة عابد تكتب: السبيل إلى التوحيد: رحلة بين الفكر الروحي والعقلانية الإنسانية

هديَّةٌ ثمينة قَيِّمة بمعناها المُتألِّق، كتاب “السَّبيل إلى التَّوحيد” من سماحة شيخ عقل المُوَحّدين المعروفيين السَّابِق الشَّيخ نعيم حسن الَّذي أُكِنُّ له كل احترامي وتقديري، والَّذي طَلَبَ مِنّي ابداء الرأي والتَّعليق على هذه الثَّروة الروحيَّة الرَّائِدة.

المُؤَرِّخة الدُّكتورة مفيدة عابِد

لله ما أجملها رحلة في مهاد الإشراق والنور، بين عُظَماء وَمُتَدَيّنين وَمُوَحّدين، تنادوا لِحِفظ تُراث التَّوحيد، واستعادة سير أبطال الرُّوح للهداية والاقتداء. فإلى كُلّ من يَحفَظ الأصالة والدّين، وافِر تقديري وشُكري.

لن أكتفي بالنَّظَر، فأنا ارتَوَيت عبر هذه الرّحلة الدينيَّة التوحيديَّة، تتواصل مع الماضي، وتراكم العطاء وتكامل مع حاضر مشرق بعونه تعالى فتتوالى للأجيال، والمعنى لا يَنضَب، صنتُم التقاليد والمناقبية، وَتَمَحوَرتُم حول دائرة شُعاعها، إنْ في النّضال أو الدّين أو الحضارة مُتفاعلين فاعلين، فكان لَكُم المجد الحقيقي والكرامة المُصانة، مجد مَن تَخَطَّى الذَّات وصانَ العهد، جِئتُم تَحمِلون رسالة تضحية عامِرة بروح المسؤوليَّة، ورَبَطتُم هذا التُّراث الإنساني للأجيال الصَّاعِدة، بانتظامه وصيرورته وأبعاده ومكانته، بديمومة التواصل والتكامل والتراكم، بين الماضي والحاضر والمستقبل، لتحافظوا على استمرارية المجتمع الدرزي القائم على أبنائه، المُشبَع بروح التضحية والمحبة والتفاني. تراث روحي، ذلك هو سبيل التوحيد، تراث تفاعل مع نفوس فاضَت أعماقها بقدسية التوحيد، وأنزل الوحي بركة تتلمسها الأجيال الصَّاعِدة ليبقى النور مُضيئاً، وتَكمُن أسراره محيرة، نُحَاول الإحاطة بهذا السفر العظيم “السبيل إلى التوحيد” فننتهي من قراءته، والتعمق به، خاشعين مُتَضرّعين مُبتهلين لعظمتِه وجبروتِه تسلسل مجد وإكليل غار، نستنشق عطر أريجه، طمأنية في القلب، واستنهاضاً لمآثر زُرِعَت في النفوس لتتوارثها الأجيال، مُعلِنة الخلود لأبطال الروح هؤلاء، فكان لهذا السفر العظيم لطائفة المُوَحّدين الدروز، مُتكامِلًا مع قدرات تبدو وكأنها أسطورة، تنطلق الثورة الروحية الرائدة مترافقة متزامنة مع ريادة اجتماعية ثقافية تربوية دينية عقائدية، ولن أشير إلى شهود، فكل ما في هذا السفر العظيم يَنطُق شهادة.

أدرَكَ المُوَحّدون الدروز أنّ الرُّوح تُساعِد على تحديد الطريق الصحيح لمسيرة الإنسان في رحبات هذا الوجود الذي لا يعرف له بداية ولا نهاية، تُقيم أساساً وطيداً لمسؤوليته الأخلاقية عن أفعاله وأفكاره، تُفَسِّر صلة الإنسان بأسرته بوطنه، بِحُبّه بالروابط الاجتماعية والوراثية، تفسيرًا أعمق من التفسير الشائع فعلاً عن صلة الإنسان، بجسده العضوي الرَّاهِن.(قوس غوش: التَقَمُّص أهو حقيقة أم خيال؟ ١٩٩١).

أدرَكَ المُوَحّدون الدروز أنَّهُ ينبغي أن يتسامى عن طريق التزهُّد و إنماء المشاعر النبيلة والمُثُل العليا، لِنَبلُغ طور الاندماج بالوعي الالهي، هو العمل الدؤوب على تنمية أفكارنا من أجل الوصول إلى تحررنا الروحي، ولو أدركنا الغاية التي وُجِدنا من أجلها في هذا العالم، لكان بمقدورنا أن نختار مثالاً أعلى وتوجهاً سامياً لمسار أعمالنا ومساعينا وجهودنا، هي المثابرة على قراءة الأسفار التوحيدية المُقَدَّسة الصلاة والتأمل، نزرع الأفكار الإيجابية والنّيات الطيِّبة وخدمة الآخرين وإصلاح الخُلق وتهذيبه وتوجيهه نحو التعقُّل والرزانة.

الرُّوح الطَّاهِرة تبتعد عن كل ما هو دنيوي، وترتفع نحو العلاء وتسمو في مُنعرجات الرقي الروحي لتصل إلى ملكوت السماوات. الرُّوح الطَّاهِرة تتحرَّر من الضّيق النفسي وتتبرَّأ من الغضب والبُغض وسائِر العواطف الشريرة، الرُّوح الطَّاهِرة هي التيقُّظ لله وإخلاصه للعبادة، هي دعامة بالغة الأهمية للترّقي الروحي، إنها تقوية الإيمان بالله والإذعان لإرادته (كمال جنبلاط واليوغا والحكمة الهندية ص ۸۹) هي اتّصال الإنسان بالله مُباشرة، هي هذا السمو فوق نفسه وعقله وفوق أغراض الحواس، هي هذه المُجاهَدة المُستَمِرَّة بالفعل والقلب والشعور والإحساس والحُبّ الصَّافي والعشق الإلهي .

“السبيل إلى التوحيد” يُعتبَر من نفائس الكُتُب التي تَضَمَّنَت طيَّاتِه علوماً توحيدية سامية، حيث يستطيع المرء من خلاله، أن ينهل من معين مضمونه الأسس والركائز التوحيدية الصحيحة التي تقوده إلى سلوك الصراط المستقيم، بالإضافة إلى ما حث هذا الكتاب، على ما يتوجب على كل فرد من التزامات وأخلاق تجاه نفسه وتجاه المجتمع الذي يعيش في محيطه. هذا وقد أفاد هذا الكتاب تاريخ انساب الموحدين الدروز، وقوم ماضيهم وحاضرهم حيث يُطلِعنا على ما نهجوه من تقاليد وعادات وقواعد مُشرِفة ومُشرِقة، يتفاخر بها كل مُوَحّد، لما اتَّصَفوا به من حكمة وآداب وسلوك وإيمان وأخلاق عالية ونخوة ومزايا عريقة، سَجَّلَت لهم تاريخاً مجيداً ناصعاً. هذا الكتاب يُعتَبَر دستوراً لِكُلّ مُوَحِّد وَلِكُلّ مريد يتوق إلى معرفة العلوم العرفانية ونبراساً لكل طالب علم ونور، ومنارة تنير دروب الظلام والجهل لما تناوله من فصول منظمة واضحة تقوده إلى بر الأمان والطمأنينة والاستقرار النفسي والروحي، ليعلم أنَّ علوم التوحيد هي الحرية بمعناها الحقيقي، إذ من يتبع ما ورد من عظات وتنبيهات وإرشادات في هذا الكتاب، يستطيع أن يعتق نفسه من مغريات هذه الدنيا الفانية ويتحرر من شهواته التي تشده إلى عالم المادة الزائلة، يثق بها ويتخبط في أدرانها، إلى أن تضعه بين أغلال المادة والعبودية وشهوات النفس الأمارة بالسوء. هذا وقد يستطيع المرء أن يفقه من خلال هذه النصوص، معنى العدل الإلهي وما من عليه الله من الرحمة والنعم، فكان العقل الذي وهبه الله للإنسان، والعقل هو الموجه الدائم إلى الخير والصواب، فمن استقام في مسلكه سعد في دنياه واطمأن إلى آخرته، وإلا فإنه سيلقى نتيجة أعماله عاجلاً أم آجلاً. فلنصلح أعمالنا ونعمل ما أمكن من الفضائل والصفات الخيرة ونبتعد عن الكبرياء والأنانية والغضب، ونكثر من البر والإحسان والحلم والعفو والتسامح وخدمة المحتاجين والمعوزين، ونسعى إلى تحقيق العلم الروحاني والمعرفة والإدراك والوعي ليتحقق لنا السمو والارتقاء وضرورة أن يقضي المرء واجباته الاجتماعية والدينية والمادية، كي يحظى برضى الله ونعيمه، فتكون نفسه عند الموت ، طليقة من قيود المادة وشهوات الدنيا، ناجية من حسرات الندم على ما فات عليها من الفرص، لأن الاخطاء التي يرتكبها الإنسان، لا بد لها من ردات فعل تتناسب مع نوعها من الخير والشر.

“فَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ خيراً يرَه، وَمَن يعمل مِثقالَ ذَرَّةٍ شرًّا يرَه .” لذا فإنَّ الإنسان سيُلاقي مغبة أعماله جزاءً ووفاقاً. فإن صَلُحَت، فإنَّ السعادة تنتظره، وإن فَسُدَت، فَسَيَقِف خاسِئاً حسيراً لضياع ما فاتَهُ من فُرَص الخلاص.

وفي مسيرة “السبيل إلى التَّوحيد” كان الارتقاء الروحي، وكأنه مشعل مُتوارَث تدرج إلى الأولياء الأتقياء من عهد امنحوتب قبل المسيح في أوائل القرن الخامس الهجري تدعو إليه قدسية الحاكم بأمر الله، ويستظل مِظَلَّة المُوَحّدين الدروز بِمُجاهَدة مُستَمِرَّة عقلاً وقلباً وشعوراً وإحساساً وَحُبًّا صافياً ولِهاً. وكأنَّ الدعوة التوحيدية اخترنت رؤى اليونان وتَطَلُّعات الهند وتوحيد مصر، فتبرز الفضيلة في هذا “السَّفَر العظيم” وفي توحيدهم جوهرية الديانات الأخرى الخاصة القرآن الكريم حيث كان له الحيّز الأكبر والمكان الأوسع في هذا التراث فلا تَعَصُّب ولا انحياز، دُعاة للتوحيد كباراً ونذراً تُشير إليهم الأسفار التوحيدية تنويهاً وتقديراً.

سِرّ مِن أسرار الكينونة البشرية، هذا التُّراث الإنساني الكامِل، تأصل منذ بداية عهد الحاكم بأمر الله، وَحَرِصَ على المُحافظة عليه طيلة حُكم الإمارة التنّوخيَّة والَّتي تبلُغ ثمانية قرون إلى الآن، نموذجاً ورمزاً لحقيقة مُشِعَّة للتُّراث التوحيديّ الروحيّ، الذي أضاءَ جوانبه الأمير السيد عبد الله التنّوخي “قدَّسَ الله سِرّه” بثورته الإصلاحيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة وخاصة الدينيَّة، تُراثاً تاريخياً سيستمر أبداً إلى ما بعد عصر الأمير السيد، نبراساً منيراً وشعاعاً أصيلاً تَتَسَلَّمهُ الأجيال الصَّاعِدة، وثيقة قومية حيَّة وتُراثاً إنسانياً وطابعاً حضارياً وثورة رائدة اجتماعية ثقافية تربوية وأصالة أخلاقية دينية روحية إلى يوم الدين.

فخورون ما خَطَّته اليد من نفائِس العِظات والارشادات التوحيدية من أجل خَلق مجتمع راقٍ سامٍ، يتحَلَّى بالأخلاق والسِّمات الحميدة، يتَمَسَّك بحبائِل الإيمان، يَتَحَصَّن بالعِفَّة والفضيلة، تُنير دروبه وتقودهُ إلى أرقى المراتب الَّتي دعا إليها التَّوحيد. عنوانين مميزة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى