تحليل لفشل الحكومات في إدارة الدولة / بقلم: المهندس موسى فريجي
يبدو أن معظم رؤساء الوزراء وحتّى الوزراء فشلوا في إدارة الدولة منذ العام 1992 حتّى اليوم. يكفي أن يُقال أن العجز في الموازنات لازمَ هذه الحقبة، الأمر الذي إضطر الحكومات المتعاقبة على الإستدانة من المصارف لسدّ العجز وبطريقة خبيثة كونها تعلم مسبقاً عن عدم قدرتها لِلسداد.
هنالك مشكلتان في موضوع العجز المتتالي. أوّلهما الفساد المستشري إن في الجباية أو في الجمارك والإسراف في التوظيف العشوائي والنهب، وثانيهما الإمتناع عن إعتماد الإجراءات التي توفر دخلًا يسدّ العجز في الموازنات العامّة.
أولاً: في الفساد المستشري
لجأت الحكومات المتعاقبة بالتآمر مع حاكم مصرف لبنان الى إغراء المصارف بالفوائد المرتفعة كي تسحب السيولة منها، والتي هي أموال المودعين، وتقرضها للدولة دون إمكانية إستعادتها وبالتالي إعادتها للمصارف والمودعين. ولزيادة الطين بلّة، ان المصارف راحت تُغري المودعين بفوائد مرتفعة كي تحصل على المزيد من إيداعاتهم وتوفر بذلك الطلبات المتزايدة من مصرف لبنان والحكومة.
ما تقدّم أصبح يعلمه القاصي والداني في لبنان وسئِم سماعه من كافّة المحلّلين. لكن لم ترقى التحليلات حول تصرّف الحكومات المتعاقبة السيء إلى درجة إتهام هذه الحكومات بالتواطؤ والتبعيّة والعمالة من جهة، والجهل والمكر والفساد من جهة أخرى.
ففي موضوع التواطؤ والتبعية والعمالة أقول:
أ- كلّ رؤساء الحكومات ووزرائهم إنصاعوا إلى إملاءات الولايات المتحدة الأميركية والإتّحاد الأوروبّي وانجرّوا إلى توقيع إتفاقيّات تبادل تجاري حرّ تسمح لهذه الدول بتصدير منتجاتها وخاصة المدعوم إنتاجها، الى لبنان دون الخضوع لأي رسوم جمركيّة البتّة. كما انصاعوا إلى شروط منظّمة التجارة الدوليّة لتخفيض معدّل الرسوم الجمركيّة على كافّة المستوردات إلى ما دون الـ 5%. وهكذا حرمت هذه الحكومات نفسها من دخل كان يتعدّى الملياري دولار سنويًّا الى نصف المليار الواحد. هذا عدا تعرّضه لإنخفاض أكبر بعد إنهيار الليرة أمام الدولار منذ أوّل 2020، حينما إنخفض الدخل الضريبي بشكل دراماتيكي بسبب إعتماد الرسم الجمركي بالليرة اللبنانية وبسعر محدد للدولار بـ 1,500 ل.ل. ثمّ موخرًا إلى 15,000 ل.ل. ومن ثم 45,000 ل.ل. الأمر الذي يؤدّي إلى دخل يصل الى 40% حاليًا من حاصل النسبة المئويّة للرسوم الجمركيّة المنخفضة أصلًا. وهكذا أوقعت الحكومات المتعاقبة نفسها في عجزٍ بعد عجز لإنها خضعت لإملاءات الدول الغربيّة بتخفيض الرسوم الجمركيّة والتي لم تكن بريئة أبدًا. فهذه الدول خطّطت لإنهيار الدولة وتهجير الكفاءات كي يبقى لبنان عاجزًا دون قدرة له للتقدّم بل خططت إلى جرّه للإنهيار ووقع في الفخ رؤساء الوزارات والوزراء المتعاقبون بسبب جهلهم أو فسادهم أو عمالتهم.
ب- أمّا في الفساد فحدّث ولا حرج. فجهل معظم رؤساء الوزارات أدّى إلى استغلال معظم الوزراء المعلّبين بالمحاصصة ومعظم المدراء العامين ومعظم الصفوف الثالثة والرابعة من موظفي الدولة الى الرشوة والإثراء غير المشروع، وبالتالي نهبوا المواطنين بصور مختلفة. كل هذه الممارسات سارعت في تنفيذ خطة الدول الغربية في إنهيار لبنان الممنهج من الداخل دون الحاجة إلى غزوه عسكريًا، كما فعلت في فلسطين والعراق وسوريا وليبيا واليمن.
ثانيًا: في الإمتناع عن أخذ الإجراءات التي توفّر الدخل اللازم
قلنا أن الفساد أوصل الدولة إلى حالة إستحالة تأمين دخل من الرسوم والضرائب يوفر التوازن مع الإلتزامات. طبعًا يعتبر ذلك قصوراً من الحكومات المتعاقبة على فرض القوانين في هذا الشأن وحتّى في غيرها، وعلى رأسها الإنصياع لقانون قيصر وحرمان لبنان من مساعدات من روسيا أو من إيران، ناهيكم عن حرمان لبنان من كهرباء الأردن وغاز مصر ومشاريع الصين وغيرها.
ففي الدول المتقدّمة تأتي مهمّة توفير الدخل اللازم في أولويّات الحكومات كي ينتظم عمل الدولة. فتفرض الرسوم والضرائب المختلفة لتوفّر من خلالها الدخل اللازم لِصرفه في مجالات رواتب موظفيها من كل القطاعات ولتوفير التأمينات الاجتماعية اللازمة من طبابة وضمانات إجتماعيّة وتعليم ونقل عام وبُنى تحتيّة، وتوفير دخل محترم للأمن الداخلي والدفاع وغيرها. لذلك من واجب الحكومات الطبيعي أن توفّر الظروف والقوانين الحِمائية اللازمة للقطاع الخاصّ للقيام بنشاطات في مجالات الصناعة والزراعة والتقنيّات الحديثة والتعليم والسياحة والخدمات المختلفة لكي تتمكّن من دفع الضرائب المحقّة مقابل الخدمات.
ثالثًا- في الحلول
قلنا أنّ توفير الدخل الكريم هو الحل الوحيد لإعادة القطاع العام إلى عمله كي ينتظم عمل الدولة. أمّا الدخل المطلوب لذلك فلا مناص من تأمينه من خلال وضع الرسوم الجمركيّة المرتفعة على الكماليّات وعلى كلّ ما ينتج حاليًا أو يمكن إنتاجه في لبنان من منتجات صناعيّة أو زراعيّة. ففي دراسة متأنيّة لهكذا إجراء لدى مراجعة البيانات الجمركيّة وفصولها الـ 98 تبيّن لي أنه بالإمكان توفير دخل يفوق الأربعة مليارات دولارات سنويًا من حصيلة الرسوم الجمركيّة المرتفعة، والمحصّلة بقيمة عملة الإستيراد كاملة، على ما تقدّم من منتجات وذلك في البدء، ثمّ ينخفض تدريجيًا مع إنخفاض الإستيراد للمواد الخاضعة للرسوم المرتفعة ليحلّ مكانه ضرائب الدخل على المشاريع الإنتاجية المستحدثة.
فالحماية الجمركية الفاعلة هي السبيل الوحيد لتحفيز الإستثمار في القطاعات الإنتاجيّة. والإستثمار هذا يوفّر فرص عمل ويحافظ على جزء غير يسير من الكفاءات التي تغادر لبنان. وهكذا دخل يغني لبنان عن اللجوء للإستدانة من صندوق النقد الدّولي، ويغني عن فرض شروطه التعجيزيّة على الدولة. إنّ تذرّع البعض بأنّ الرسوم الجمركية سوف تزيد من كلفة المعيشة إنما هي ذريعة واهية كون هذه الرسوم سوف تصيب الكماليات أولاً وبعض المنتجات المتوفّر بديلاً عنها محليًا.
لكن المعضلة التي تقف بوجه الحكومة الحالية هي الحصول من مجلس النواب على قانون يجمّد بموجبه العمل بإتفاقيات التبادل التجاري الحرّ لمدة لا تقلّ عن 15 سنة وعلى تجيير حقّ تعديل الرسوم الجمركية لها.
الخلاصة
إن مفتاح الحل للأزمة الإقتصادية اللبنانية يكمن في توفير الدخل لإنصاف القطاع العام. إنّ أيّ تردّد من مجلس النواب في تجميد العمل بكلّ باتفاقيات التبادل التجاري الحرّ الصادر بها قوانين وفي نقل حق تعديل الرسوم الجمركيّة اليها، وكذلك الإنفلات من قانون قيصر انما تعتبر خيانة عظمى ناتجة إمّا عن جهل من النواب أو عمالة للدول الموقّع معها هذه الإتفاقيات أو عمالة لِفارضي قانون قيصر، وبالتالي فإنّه عمل تخريبي موصوف من قبل النواب وتبعية النواب والحكومة لإملاءات الدول الغربيّة.