لبنان يغرق في سيارات الموت: لا رقابة… لا كفالة… ولا قانون!

في ظل الأزمات المتلاحقة التي تضرب لبنان، يبرز قطاع السيارات كواحد من أكثر القطاعات تضررًا وتأزمًا. وفي مقابلة حصرية مع الأستاذ نبيل بازرجي، رئيس جمعية ممثلي صانعي المركبات العالمية في لبنان (AIA)، والوكيل الحصري لعلامات تجارية مثل سوزوكي، مازيراتي، ودوكاتي، يكشف عن صورة دقيقة وحقيقية لحال هذا القطاع وما يواجهه من تحديات مصيرية تهدد استمراريته ومكانته في الاقتصاد اللبناني.
يبدأ بازرجي بتوصيف الواقع الراهن، مؤكدًا أن قطاع السيارات في لبنان يمرّ بمرحلة غير مسبوقة من التراجع نتيجة الحرب الأخيرة والأزمة الاقتصادية المستمرة منذ 2019. تعطلت سلاسل التوريد، تقلصت القدرة الشرائية للمواطن، وتوقفت حركة البيع بشكل ملحوظ، ما أدّى إلى شلل فعلي في السوق. ومع ذلك، يذكّر بأهمية هذا القطاع كركيزة من ركائز الاقتصاد الوطني الذي لطالما شكّل واجهة حضارية للبنان.
يشرح بازرجي المهام المترتبة على وكالات السيارات المعتمدة، مؤكدًا أن دورها لا يقتصر على بيع المركبات، بل يتعدى ذلك إلى ضمان خدمة ما بعد البيع، الصيانة، تأمين قطع الغيار، والالتزام بالمعايير الصارمة التي تفرضها المصانع العالمية. ويضيف أن المصنع لا يمكن أن يبيع مركبة دون تأمين سلسلة خدمات متكاملة، بدءًا من الكفالة، مرورًا بالصيانة الدورية، وصولًا إلى التحديثات التقنية، وكل ذلك لا يتم إلا عبر الوكلاء المعتمدين المؤهلين إداريًا وتقنيًا.
وفي استعراض لتاريخ الجمعية التي يترأسها، يكشف بازرجي أن جمعية AIA تأسست عام 1923، أي منذ أكثر من قرن، ما يجعلها من أقدم المؤسسات المهنية في لبنان. هذه الجمعية تمثل اليوم أكثر من 95 علامة تجارية، وتلعب دورًا رقابيًا وتنسيقيًا بين المصانع العالمية والوكلاء المحليين، وفق قوانين ومعايير دقيقة تضمن جودة المنتج وسلامة المستهلك.
واحدة من القضايا الملحة التي يطرحها بازرجي هي تقادم أسطول السيارات اللبناني، حيث أن ما يقارب 80% من السيارات العاملة تخطى عمرها 23 عامًا. وهو ما يُعدّ مؤشرًا خطيرًا على تدهور السلامة العامة، في ظل غياب خطة وطنية لتجديد الأسطول. ويقارن بازرجي ذلك بما يحدث في بلدان أخرى، حيث تقدم الحكومات حوافز ضريبية لاستبدال السيارات القديمة بسيارات جديدة وصديقة للبيئة، في حين يستورد لبنان سيارات مستعملة عمرها بين 7 إلى 8 سنوات، ليتم استخدامها حتى 30 سنة أحيانًا.
الحديث عن غياب النقل العام كان محوريًا في المقابلة، إذ يرى بازرجي أن غياب منظومة نقل مشترك فعالة يجبر المواطن على امتلاك سيارة، ما يزيد من الضغط على هذا القطاع في ظل غياب أي تمويل أو دعم من الدولة أو المصارف. ويضيف أن المواطن اليوم إما يشتري سيارة نقدًا وهو أمر شبه مستحيل، أو يتدبر أمره بسيارة قديمة في ظل غياب البدائل.
من الملفات التي أثارها بازرجي أيضًا كانت قضية مراكز “النافعة” (مصلحة تسجيل السيارات) التي بقيت مغلقة لأكثر من سنتين، مما عطّل معاملات التسجيل، ومنع المواطنين من الحصول على دفاتر سوق أو بيع سياراتهم أو حتى تجديد ميكانيكها. لكنه أشار إلى تحسن نسبي في الوضع بعد تعيين قيادة جديدة ومتابعة مباشرة من وزير الداخلية ورئيس الجمهورية، حيث بدأ تنفيذ إجراءات تنظيمية مثل اعتماد نظام طابور إلكتروني وتنظيم الجلسات والخدمات، ما أنعش الأمل بعودة الحياة إلى هذا المرفق الحيوي.
لم يغب الجمرك عن حديث بازرجي، حيث اتهمه بفتح الباب أمام إدخال سيارات مضروبة أو مخالفة للمواصفات، في خرق واضح للقوانين. وأكد أن المسؤولية هنا تقع على الدولة، إذ يجب أن تطبق القوانين بدقة لمنع دخول المركبات غير المطابقة للمعايير، متسائلًا عن مدى جدية الرقابة الجمركية، ودور المجلس الأعلى للجمارك في ضبط هذه الفوضى.
السياسات الضريبية شكلت أيضًا محورًا أساسيًا في النقاش، حيث أوضح بازرجي أن رسوم استيراد السيارات تصل في بعض الحالات إلى أكثر من 70% من قيمة السيارة الأصلية، إذ تُفرض رسوم جمركية، ثم ضريبة استهلاك داخلي، تليها ضريبة قيمة مضافة، وأخيرًا رسم تسجيل لدى النافعة. هذه التراكمات الضريبية، بحسب بازرجي، تؤدي إلى تضخم غير مبرر في الأسعار، ما يعمّق الفجوة بين العرض والطلب، ويمنع المواطن من تجديد سيارته أو اقتناء واحدة جديدة.
في حديثه عن سوق السيارات الحالي، وصف بازرجي الوضع بالمأسوي، مشيرًا إلى أن السوق الذي كان يبيع أكثر من 36,000 سيارة سنويًا في العام 2018، لا يبيع اليوم أكثر من 7,500 سيارة فقط، ما يعكس تراجعًا بنسبة 80%. هذا الانهيار لا يخص علامات تجارية بعينها، بل يشمل كافة الماركات والموزعين. ورغم إدخال موديلات جديدة إلى السوق اللبناني، بما فيها سيارات صينية حديثة، إلا أن القدرة الشرائية المحدودة للمستهلكين تمنع أي انتعاش حقيقي.
ورغم سوداوية الصورة، عبّر بازرجي عن تفاؤله بمستقبل لبنان في ظل العهد الجديد، مؤكدًا أن جميع الوكلاء حاولوا التكيّف مع الأزمة دون المساس بحقوق الموظفين، إذ تم تقليص حجم الانتشار والفروع، لكن دون صرف أي موظف. وأكد أن الكرامة المهنية والمعيشية للموظفين كانت في مقدمة أولوياتهم.
واختتم بازرجي حديثه بتوجيه رسالة مهمة للمستهلك اللبناني، داعيًا إياه إلى أن يكون أكثر وعيًا عند شراء السيارات، وأن لا يتخلى عن حقه في الكفالة التي تُعدّ التزامًا قانونيًا من المصنع على البائع. كما شدّد على أهمية إجراء الصيانة لدى الوكلاء المعتمدين، لا عند الميكانيكي “اللي تحت الدرج”، لأن الصيانة الدقيقة والمطابقة للمعايير تضمن أمان المركبة وطول عمرها. كما حذّر من شراء سيارات كهربائية مستعملة من مصادر مجهولة، لأن عمر البطارية غير مضمون إلا من خلال الوكيل المعتمد.
وفي النهاية، يؤمن بازرجي أن الحلول موجودة، لكن الإرادة السياسية وتطبيق القانون هما المدخل الوحيد لإنقاذ قطاع السيارات، والاقتصاد اللبناني ككل.