الاغتراب

رحل الذي لا يرحل منير حبيب عيسى بصمة لا تنطفئ

Spread the love

رحل منير عيسى… الرجل الذي لم يكن عابراً في زمنه، بل قامة اغترابية شامخة، خلية منتجة للفكر والثقافة، للصناعة والكرم، للفنّ والغلال. رحل وفي قلبه وطن، وعلى كتفيه تاريخ، وفي روحه رسالة لم تتعب من الشغف، ولا كلّت من الحلم.

منير عيسى، ابن بلدة أميون، وُلد في أحضان أرض تحب التعب وتثمر الصدق، كان يشبه زيتونها في ثباته، ومواسمها في عطائها. خرج من كنف مزارع متواضع، يحمل بذرة الاستقامة، ونشأ في بيت أصيل فيه حنان الأم جوليا التي علّمته كيف تُدار الحياة بقلب شجاع وعقل متزن. ومن هناك، شقّ طريقه نحو العالم الكبير، دون ضجيج، دون سندٍ سياسي، لكن بسندٍ داخلي اسمه الإرادة.

في الأول من أيار عام 1955، غادر منير إلى قطر، شاباً يشقّ أرض الرمل بخطوات حالمة. كانت قطر في بداياتها، ينهض فيها العمران من العدم، وكان هو من بين الذين أسهموا في هذا النهوض. عمل بيده وعقله وقلبه، وتحوّل من موظف بسيط إلى صرح اقتصادي، فأسّس شركة خدمات ضخمة ضمّت أكثر من ألفي موظف. لكن منير لم ينسَ من أين أتى، فظلّ وفياً لجذوره، ناظراً دائماً نحو لبنان كـ”نقطة التلاقي الأخيرة والحتمية”.

لم يكن نجاحه مجرد صعود مهني، بل كان تفوّقاً أخلاقياً. بذر بذور الخير حيث حلّ، ومدّ يده بصمت لمن احتاج. كان منير يعطي دون أن يلتفت، يكرّم الناس دون أن ينتظر تكريماً. وهو الذي حمل همّ التعليم كرسالة، فأسّس مع الجالية “المدرسة اللبنانية في قطر”، تلك التي شكّلت ملاذاً تربوياً، وجسراً لهويةٍ لبنانية عصيّة على الذوبان.

نال منير عيسى أوسمة كثيرة، وسام الاستحقاق اللبناني من رتبة ضابط، وسام الشرف الإيطالي، وجوائز دولية ومحلية. لكن وسامه الأجمل كان محبة الناس، وثقة الذين عرفوه عن قرب، ومَن لم يعرفه إلّا من سمعته التي تسبق خطاه.

زوجته سامية اندراوس، شريكة نبلٍ، وأمٌّ من طينة الأصالة، أنجبت منه أربع بنات، هنّ امتداد لهذا الحلم اللبناني الناجح، في التربية والعلم والهوية. من جوليا التي علّمت في الجامعات الأميركية، إلى تانيا في الإعلام، إلى كارلا في الإدارة، وديما في علوم التواصل… أربع زهراتٍ زُرعن في تربة النجاح.

وفي ختام الدرب، بقي منير عيسى ثابتاً، متّزناً، محباً. لم تغيّره الغربة، ولا أغرته المناصب، ولا شوّهت صورته الجوائز. كان كما بدأ: متعقلاً، كريماً، راقياً، يزرع الورد في أرض الناس، ويروي الوطن من قلبه.

واليوم، أمام غيابه، لا نقول وداعاً، بل نقف صامتين أمام شجرة شامخة، أعطت ثمارها ورحلت بهدوء.

كان منير عيسى مدرسة في التواضع، في الالتزام، في النجاح بصمت، في الإحسان بلا مِنّة. رجل عاش في الاغتراب دون أن يغترب عن قضاياه، عن بيئته، عن جذوره. رجل لم يقل فقط، بل فعل. لم يرفع صوته، بل رفع سمعته.

هو لم يمت. فالأرواح التي أنارت دروب الآخرين، لا تنطفئ.

هو خلية… لا تزال تنتج، في الذاكرة، وفي القيم، وفي القلب.

وللذين يعرفون كيف تُبنى الأوطان، من عرق الرجال، ودموع الأمهات، وأحلام المهاجرين… سيبقى منير عيسى اسماً يُكتب بماء الذهب.

سلامٌ عليك أيها البيرق المستحيل، يا من غادرت جسداً وبقيت أثراً لا يُمحى.
رحمك الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى