الثورة المعلوماتية والاضطرابات الاقتصادية
سعـادة أ. د/ علي محمد صالح الخوري
في عصر أصبحت فيه المعلومات عُملة حيوية قَدْر ما هي سلعة بالغة الأهمية، يجد الاقتصاد العالمي نفسه تحت وطأة تهديد دائم التطور، يتمثل في الانتشار المتفشي للمعلومات الخاطئة، والمعلومات المُضللة. وما يُميز المفهومين هو أن الأول يرمز إلى النشر غير المقصود للمعلومات الخاطئة. وأما الثاني، فيشير إلى النشر المُتعمد لها. وتبيِّن هذه القضية التحديات التي تواجه الأنظمة المؤسسية والحكومية في حماية استقرار اقتصاداتها، وديمومة أعمالها.
ومع تراجع وسائل الإعلام التقليدية لمصلحة المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تجمع كميات كبيرة من البيانات المرئية والسمعية والمكتوبة، وتعمَد إلى توزيعها، والتحكم فيها، ارتقت المعلومات الخاطئة والمضللة إلى مرتبة المخاطر العالمية الكبيرة؛ بحسب تقرير المخاطر العالمية 2024، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي؛ ويرجع ذلك إلى احتمالات استخدامها أداةً لتشكيل الرأي العام، والتأثير في السياسات العامة، بل حتى التلاعب في نتائج الانتخابات، أو الأسواق الاقتصادية.
ومن اللافت للنظر تطور مصطلح “الأخبار المزيفة” في الأعوام الأخيرة؛ ليصبح رمزًا ثقافيًّا وسياسيًّا، ولا سيَّما عقب الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2016، والنقاشات التي تبعتها بشأن الآثار المُحتملة للمعلومات المتحيزة وغير الدقيقة في الديمقراطية والمجتمعات. ووفقًا لدراسة أجرتها شركة الأمن السيبراني (CHEQ)؛ فإن الإنفاق على الأخبار غير الدقيقة في السباقات السياسية يصل إلى أكثر من 400 مليون دولار سنويًّا.
وتجدُر الإشارة إلى أن العام الجاري سيشهد إجراء انتخابات في دول تمثل 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ومن هذه الدول بريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، والهند، إضافةً إلى انتخابات الاتحاد الأوروبي. ووفقًا للمنتدى الاقتصادي العالمي؛ يُتوقع أن تؤدي المعلومات المُضللة دورًا بارزًا في تأجيج الاضطرابات والانقسامات الاجتماعية في أثناء الحملات الانتخابية.
وعلى صعيد الآثار الاقتصادية المباشرة ستكون لهذه الظاهرة تداعيات جسيمة وبعيدة المدى. وبحسب مؤشر التضليل العالمي لعام 2021؛ فإن التكلفة السنوية للمعلومات المُضللة بالنسبة إلى الأسواق العالمية تصل لمليارات الدولارات؛ نظرًا إلى إمكانية تأثيرها في سلوكيات المستثمرين واستراتيجيات الشركات، إلى جانب تقويض ثقة المستثمرين، وتشويه سمعة المؤسسات؛ فعندما تُحقَن البيانات “المفبركة” في أنظمة الأسواق المالية، التي تعتمد في الأصل على التنبؤ وسلامة المعلومات، وتزداد التقلبات الناتجة منها في قرارات المستثمرين؛ يصبح التمييز بين الحقيقة وما هو دونها أمرًا شاقًّا. وكانت دراسة أعدتها جامعة بالتيمور في عام 2019 أشارت إلى أن الخسائر الاقتصادية العالمية الناجمة عن انتشار الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة تصل إلى نحو 78 مليار دولار؛ ويشمل ذلك التكاليف التشغيلية التي تضطر المؤسسات معها إلى إنفاق المزيد لإدارة المعلومات؛ والتحقق منها.
وبعيدًا عن التقلبات المباشرة في ديناميكيات الأسواق يكشف التقرير الصادر عن مؤشر “إيدلمان للثقة” في عام 2024، أنه على الرغم من أن الثقة بالمؤسسات الإعلامية المحلية في بلدان منطقة آسيا والمحيط الهادئ أعلى مقارنة بالدول الغربية؛ فإنها لا تزال ضعيفةً في المُجمل، وخاصة تلك المرتبطة بالسياسات والقرارات الاقتصادية. ويشير التقرير أيضًا إلى الدور المزدوج للتكنولوجيا في تسهيل انتشار المعلومات المُضللة، ولا سيَّما في ظل القدرات الناشئة للذكاء الاصطناعي على توليد محتوًى مُزيف ومقنع.
ويتطلَّب التصدي لهذه التحديات استراتيجيات دقيقة ومتعددة الجوانب تشمل التنظيم والتعليم، والتكنولوجيا في أبسط أشكالها. ويجب أن تضمن الأطر التنظيمية، ولا سيَّما في سياق الذكاء الاصطناعي والمنصات الرقمية، الاستخدامات الأخلاقية، وفَرْض المساءلة في الإشراف على المحتوى، وتشجيع الشفافية في نشر المعلومات. وعلى سبيل المثال يمثل قانون الخدمات الرقمية للاتحاد الأوروبي إطارًا موحدًا لتنظيم المنصات الرقمية؛ بهدف تقليل انتشار المعلومات المضللة التي قد تؤثر سلبًا في النقاش العام، وتؤدي إلى تشويه الحقائق؛ كما يشجع القانون الشركات الرقمية على تطوير سياسات وأدوات لمواجهة المعلومات المضللة، والحفاظ على بيئة رقمية آمنة وموثوق بها.
ومن جانب آخر تُعد الثقافة الإعلامية لدى أفراد المجتمع عنصرًا محوريًّا لتطوير القدرات والمهارات في التقييم النقدي لمصادر المعلومات، والتمييز بين المحتوى الموثوق به والمُضلل، والاستهلاك الواعي للمحتوى الذي يجري تلقيه أو تناقله في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي. وقد أصبح هناك توجه دولي إلى تقديم دورات تدريبية عبر الإنترنت، وورش عمل في المدارس والجامعات، ومواد تثقيفية أخرى، إلى جانب تطوير منصات رقمية للتحليل الموضوعي للمعلومات والأخبار الملتبسة، والتحقق من المعلومات والشائعات المتداولة، وتقييم مصداقيتها.
ويُعد الاستثمار في الحلول التكنولوجية أمرًا بالغ الأهمية، بصفتها أدوات حيوية لتحديد الروايات المتحيزة والخاطئة وتقليل انتشارها. وقد أصبحت تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي المتقدمة تملك القدرة على تحليل النصوص والوسائط الاجتماعية، واكتشاف المعلومات الخاطئة وحملات التضليل، والإبلاغ عنها، والتصدي لها بدقة تصل إلى 95 في المئة، وهو ما يؤكد جدوى الاستثمار في مثل هذه التقنيات على النطاق الوطني.
إن طبيعة المعلومات الرقمية، التي تعكس الواقع العالمي الجديد لتدفق المعلومات عبر الحدود الوطنية بسلاسة وانسيابية غير مسبوقتين، لم يعُد من الممكن معها لأي دولة وحدها مواجهة التحديات المتعلقة بالمعلومات الخاطئة والمضللة بفاعلية من دون التعاون مع الدول الأخرى. وهذا التعاون ضروري لتطوير وتوحيد معايير مشتركة للرصد والتحليل والاستجابة؛ ولكن هذه الجهود قد تعتريها عوائق مرتبطة بالاختلافات في القوانين والأنظمة الدولية، والخلافات السياسية، والمخاوف المتعلقة بالخصوصية والسيادة؛ وهنا يمكن للاتفاقيات الدولية أن تضع المعايير والمبادئ التوجيهية للسلوك المسؤول في الفضاء الإلكتروني، فضلًا عن إمكانية تفعيل دور الاتحادات العربية والدولية، والشركات التكنولوجية، والمؤسسات الحكومية، ومنظمات المجتمع المدني لتطوير معايير ومنصات لامركزية للرصد والمساءلة، تهدف إلى مكافحة الانتشار العالمي للمعلومات المُضللة.
وما يجب أن نعيه -أخيرًا- هو أن هذه الظاهرة لم تعُد معركة من أجل الحقيقة فحسب؛ بل تحوَّلت مُكوِّنًا أساسيًّا لضمان استقرار الأسواق، والثقة بالنظم الاقتصادية التي تشكل أساس التقدم العالمي. وفي ساحات المناورات المعلوماتية المتشابكة يتطلَّب الأمر أكثر من مسألة اليقظة والتثقيف، أو الرصد والتحليل؛ إذ يجب التعامل مع هذه القضية بصفتها قضية مركزية في السياسات الوطنية والعالمية، وواجبًا أخلاقيًّا، ولبنة حيوية لضمان الأمنين الاقتصادي والاجتماعي في العصر الرقمي.