نساء الجزائر في شقتهن
محمود الزيباوي – المدن
احتفل متحف اللوفر الفرنسي بعودة “نساء الجزائر في شقتهن” إلى موقعها في “القاعات الحمراء”، بعد أن غابت عنها على مدى سنتين بداعي صيانة ألوانها وتنظيفها. أنجز اوجين دولاكروا هذه الزيتية في باريس العام 1834، وعرضها في “الصالون الكبير” في حيث اقتناها متحف اللوفر. أثارت هذه اللوحة منذ ذلك التاريخ اعجاب الكثيرين من أهل الفن والأدب، وامتدحها من بعدهم رواد الانطباعية، وعلى رأسهم بول سيزان الذي رأي فيها “كل فن التصوير في الماضي، وكذلك فن الـتصوير في المستقبل الآتي”، وبيار رينوار الذي قال عنها في خريف عمره: “ليس في العالم أجمل من هذه اللوحة”.
بناء على توصية من صديقته الممثّلة “الآنسة مارس”، قصد ديلاكروا الكونت دي مورني، وطلب منه أن يأذن له بمرافقة البعثة الدبلوماسية التي سيقودها إلى المغرب لمقابلة السلطان مولاي عبد الرحمن، غداة سيطرة فرنسا على الجزائر. أكّد الفنان للكونت توفره “على مواصفات الرفيق الممتع والمؤنس، الواسع الاطلاع في الثقافة والفن والموسيقى”، وأوضح له أنه سليل أسرة ثرية، وان والده شارل كان وزيرًا للشؤون الخارجية في عهد الملك شارل العاشر، ثم حاكمًا فيما بعد لولاية لاجيروند، وأن الدولة الفرنسية قلّدته وسام جوقة الشرف منذ فترة وجيزة، وكان الكونت من الرجال المقرّبين من الملك، ووافق على طلب الفنان، وهكذا رافق ديلاكروا البعثة على نفقته الخاصة.
البيوت العربية
انطلقت الرحلة في مطلع العام 1832 من ميناء تولون، وحلّت في طنجة، وانبهر الفنان بهذه المدينة التي ذكّرته بالشرق الذي تغنّى به هوغو ولامارتين وبايرون. جال ديلاكروا في نواح عدة من المغرب، ثم انتقل إلى الجزائر، وقضى فيها فترة وجيزة، وعاد إلى موطنه في تموز، حاملاً معه العديد من الدفاتر التي دوّن فيها كمّا هائلاً من الرسوم والتخطيطات الأولية، شكّلت أساس مجموعة من اللوحات أنجزها فيما بعد، منها “نساء الجزائر في شقتهن”. استعاد الفنان حكاية هذه اللوحة في مذكرّاته، وقال إن الكثير ممن جالسهم حدّثوه عن “جمالية الحياة الداخلية في البيوت العربية، في عمارتها وأثاثها ونمط عيش النساء بها”، فأراد أن يقتنص أول فرصة للتعرف “على هذه الفضاءات وحياة ونشاط النساء فيها وطقوسهن اليومية، إذ لا يبارحن مساكنهن ولا يزورهن إلا أفراد العائلة كما تقضي بذلك عادات أهل الشرق”.
تحقّقت هذه الأمنية حين استضافه مدير ميناء مدينة الجزائر في بيته الفخم الأنيق على الغذاء، فطلب منه زيارة بعض أركان بيته، فلبّى المضيف طلبه. يضيف ديلاكروا هنا: “وفي بهو عال، ومن خلال نافذة تطلّ على غرفة فسيحة تجلس بها بعض النسوة، أمضيت ساعات وأنا أسترق النظر وأدّون على دفتر بحوزتي معالم هذه اللوحة، وهي تظهر جزءا من حياة النساء في مجالسهن داخل البيوت الموسرة، وما تمتّع به الحريم من رغد العيش والترف، وقد تمكّنت من إخراج هذه المسودة للوجود أثناء عودتي لفرنسا، وأبدعت هذه اللوحة الجميلة سنة 1834”.
وسائد ملوّنة
استند الفنان في تأليف هذه الزيتية على رسمين تخطيطيين أنجزهما في المغرب. يمثل الرسم الأول امرأة تتمدّد أرضا وهي تتّكئ على مجموعة من الوسائد الملوّنة، ويظهر من خلفها صندوق كبير وبعض الأواني. ويمثّل الرسم الثاني امرأتان تجلسان أرضاً، وتظهر في المقدّمة نارجيلة طويلة مع بعض أدواتها. جمع ديلاكروا في زيتيّته الصبايا الثلاث، وأضاف إليهن خادمة سوداء البشرة تسير متلفتةً في طرف اللوحة، وكأنها تهمّ بالخروج من هذه القاعة. أنجز الفنان في 1849 زيتية ثانية تماثل هذه اللوحة بشكل كبير، وهي اليوم محفوظة في متحف فابر، في مدينة مونبلييه. وعُثر منذ بضع سنوات على زيتية من الحجم الصغير تمثّل المرأة المتمددة والخادمة، وهي لوحة معاصرة للوحة الكبيرة، ظهرت في 2019 ضمن مجموعة خاصة.
من حيث الموضوع، تشكّل لوحة دولاكروا امتداداً لتقليد استشراقي ظهر في القرن الثامن عشر، أُطلق عليه اسم “التتريك”. والأعمال الفنية التي تنتمي إلى هذا الخط عديدة، وكلّها من النوع الأكاديمي الكلاسيكي. في موازاة الشرق الذي تغنّى به الرومنطيقيين، ظهر شرق معاصر لهم في أرضهم هو شرق الرحّلة. كان الرسّام يتحمّل كل مشاق السفر، لكنّ الرسم “الموقعي” كان يتوقّف على الرسوم التخطيطيّة، أمّا إنجاز اللوحة فيتمّ في المحترف الفنّي، أي في الغرب. رافق الرسامون الرحالة الارساليات العسكرية والديبلوماسية، وازدهر فنهم مع ازدهار السياسات الاستعمارية، وانتشرت أعمالهم، لا في الشرق بل في الغرب حيث تمّ عرضها بشكل منظّم في “الصالون الكبير” في باريس، كما في “الأكاديمية الملكية” في لندن. كان الإقبال على هذه الأعمال “مؤمّناً” ومضموناً، وكان زبائنه من كبار الصناعيين والمموّلين، ففي القرن التاسع عشر، كان الشرق “موضة” ومادة للتسليع من الطراز الأوّل.
متعة العين
فنيّا، تميّز لوحة “نساء الجزائر” في المقام الأوّل بلغتها التشكيلية التي تخرج عن الناموس الأكاديمي الذي التزم به الرسامون المستشرقون. كتب صاحب اللوحة في حديثه عنها: “ما زلت أؤمن بأن الصورة ينبغي أن تكون قبل كل شيء متعة للعين”. وتتجلّى هذه المتعة في الأسلوب الذي انتهجه، وهو الأسلوب الذي سحر سيزان ورينوار والعديد من زملائهما. أمضى دولاكروا ستة أشهر في المغرب العربي تنقّل فيها من منطقة إلى أخرى منجزاً عدداً كبيراً من الرسوم التخطيطية والمائيات، شكّلت أيضاً أساساً للوحات زيتية أنجزها في موطنه بعد عودته. وتُعتبر هذه الرحلة محطّة أساسيّة لا في مسيرة دولاكروا فحسب، بل في مسيرة الفن الأوروبي، كما يُستدلّ من قول تيوفيل غوتييه: “الحج إلى الشرق بالنسبة إلى الفنان بات ضرورة توازي في أهمّيتها الحجّ إلى إيطاليا”.
من جهة، أغنى دولاكروا خياله بصور الجياد والأسود والنساء والفرسان. ومن جهة أخرى، وجد نفسه امام قضية أخرى تتمثّل بعلاقة اللون بالضوء. في المغرب العربي، تخلّى الفنان عن القاعدة الأكاديمية التي تفصل بين الرسم واللون، وسعى إلى جعل اللون هو الرسم، وابتعد عن الخط الدقيق الصارم، باحثاً عن تموجات اللون في الضوء الطبيعي.
شكّل هذا البحث الانطلاقة التي مهدّت للمدرسة الانطباعية، غير أنه يبقى بعيداً عن روح الفن الشرقي بأسسه وخصائصه، فكلاسيكية النهضة الإيطالية لم يعتنقها الشرق أصلا في هذه المرحلة ليثور عليها، ومدارسه الفنية نمت في خط مغاير يتميّز برفضه محاكاة الطبيعة والبحث عن نقل الشبه الواقعي المحسوس.