قومية الأدب أبعد من اللغة والدين
أحمد أصفهاني
شهدت ندوة “مؤسسة سعاده للثقافة” قبل أيام، والتي حاضر فيها الأمين نزار سلوم تحت عنوان “مرعى الهلال الخصيب السائب: تدمير سورية التاريخية”، نقاشاً حيوياً أثارته نقاط إشكالية تتعلق بالفكر القومي عموماً في سورية وعالمها العربي. ومن بين الذين أبدوا تحفظاً إزاء بعض طروحات الأمين سلوّم الدكتورة ريم الأطرش المشاركة في الندوة من دمشق. فقد عبّرت، من وجهة نظر “قومية عربية”، عن أسفها وحزنها لما وصفته بـ”الموقف السلبي” تجاه “القوميين العرب”. علماً بأن الندوة تركز على العمق الثقافي للأمة السورية ولا تتطرق إلى المشهد السياسي المعاصر. ومن خلال متابعتي للمداخلات الرصينة بين المشاركين، يبدو لي أن الفكرة بحد ذاتها تستحق حواراً أشمل وأعمق من دون وضع قفازات سياسية حريرية!
تضمنت محاضرة الأمين سلوّم مسائل متنوعة لكن مترابطة، كل واحدة منها تستدعي بحثاً يتجاوز الواقع الآني، ويكون غير مُقيّد باعتبارات سياسية (تحالفات وما شابه) إلا من حيث الحرص القومي على تجنب السقوط في النمطية السائدة، وتفادي خطيئة التناقضات الثانوية التي قد تؤثر على التوافقات الأساسية. والذي فهمته من كلام المحاضر أنه يُوجز إلى حد كبير أهم النقاط الواردة في كتاب جديد سيصدر له خلال أيام. ومن طبيعة الإيجاز أنه لا يغطي الجوانب كافة لضيق الوقت. ولذلك نحن ننتظر الكتاب للاطلاع على بعض الأفكار الجدلية، خصوصاً ذات الحساسية السياسية التاريخية.
وما استخلصته شخصياً من الفقرات المعنية بالمسألة القومية أن “دعاة القومية العربية”، على مختلف مشاربهم، مسؤولون بطريقة غير مباشرة عن “تدمير” التاريخ السوري من خلال تجاهل مرحلة هامة تعود إلى ما قبل مجيء العرب المسلمين إلى سورية (بلاد الشام). ولم يقصد الأمين سلوّم اتهام هؤلاء الدعاة بالتدمير المتعمد، لكن المنطق الذي يستخدمونه يُوصل حكماً إلى التغييب والإلغاء والتدمير! ذلك أن خطاب العروبة المتضمنة اللغة والدين يُوقف الزمن التاريخي عند “العصر الجاهلي” في جزيرة العرب، ثم يكتفي بالبعد الإسلامي المحمدي كهوية ثقافية مركزية لشعوب العالم العربي. فتنشأ بالتالي القطيعة المعرفية بين ثقافتنا ما قبل الإسلام وثقافتنا بعد انتشاره في سورية.
لست أنكر، ولا أظن أن الأمين سلوّم ينكر، العمق الثقافي الحضاري الذي أسبغه الإسلام المحمدي على اتجاهات الثقافة في سورية. فنحن أبناء نهضة قومية اجتماعية قاعدتها الفكرية المركزية تكمن في قدرة المجتمع السوري منذ فجر التاريخ على هضم المهاجرين إليه، واستيعابهم من ضمن التفاعل المتجانس الخلاق. ومن نافلة القول إن العرب المسلمين الذين دخلوا سورية (وغيرها من المناطق المجاورة) أخذوا وأعطوا بمعايشتهم للمكونات السورية الأخرى.
وعندما نؤكد نحن أن السرد الإيديولوجي لدعاة “القومية العربية” اللغوية والدينية مسؤول عن تغييب تراثنا الحضاري الممتد إلى ما قبل التاريخ الجلي، فليس هدفنا تسفيه الإيديولوجيا بحد ذاتها وإنما الكشف عن نتائجها المُعيقة للمسار الثقافي السوري. وعلى هذا الأساس من غير المقبول تسييس بحث تاريخي حضاري الغاية منه تصحيح نظرتنا إلى الحياة والكون والفن. نحن ندعو إلى تفكيك العملية الإلغائية التي مارسها أكثر من طرف على حساب ثقافتنا القومية. وقد ذكّرنا الرفيق أسامة المهتار في مداخلته المركّزة بأن “مأسسة” الكنيسة المسيحية أتاحت للسلطات الدينية والدنيوية أن تصادر وتطارد وتلغي كل الأصوات المخالفة لخطاب المؤسسة الكنسية وهيمنتها. ونقرأ في كتب التاريخ أن التراث السرياني – الآرامي العريق أصيب بنكبة مرعبة من جراء التدمير المنهجي الذي مارسه رجال الدين في سياق “تطهير” المجتمع من الكتابات والمخطوطات “الوثنية الكافرة”. (لم ننس بعد جرائم داعش وأخواتها)! ويزيد الطين بلة أن بعض الباحثين المعاصرين يفرّق الكتابات السريانية (المسيحية) عن الآداب والعلوم السريانية – الآرامية المنتشرة والمزدهرة قبل اعتناق المسيحية.
ونقدّم هنا بعض الأمثلة الدالة. الباحث المصري الدكتور شوقي ضيف أصدر سلسلة كتب مشهورة عن “تاريخ الأدب العربي”، الجزء الأول منها بعنوان “العصر الجاهلي”. وهذا شأن طبيعي لأن “الأدب العربي” يبدأ مع الشعراء الجاهليين (قبل الدعوة المحمدية). وهكذا فإن التراث الفرعوني المتواصل لثلاثة آلاف سنة يجد نفسه خارج التصنيف “العربي”. وحتى لو أن الدكتور ضيف ما كان يقصد إلغاء ذلك التراث، فإن منهجه يعني أن مرحلة زاهية من الحضارة الفرعونية فُصلت عن خط الفكر المصري وأُدخلت في عتمة النسيان والتجاهل. أما الأب لويس شيخو فيمثل نموذج القطيعة المعرفية من منطلق ديني. فقد غاص في المراجع التراثية والتاريخية ليخرج على القراء بكتب ذات توجهات دينية منفصلة عن بيئتها الاجتماعية: شعراء النصرانية قبل الإسلام وشعراء النصرانية في الإسلام… وغيرها على نفس المنوال!
وفي الختام نأخذ أنطون سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، كمثال مناقض لما مرّ معنا في الفقرات السابقة. إن كتابه المشهور “الصراع الفكري في الأدب السوري” لا يعاني من النواقص التي قرأنا نماذج منها عند ضيف وشيخو. عبارة “الأدب السوري” تعيد تصويب البوصلة، فنرى الأمور على حقيقتها: هوية الأدب هي من هوية الشعب الذي يُبدع. والثقافة بحد ذاتها هوية قومية، سواء كان الوعاء اللغوي الحامل لها سومرياً أو بابلياً أو آشورياً أو آرامياً أو سريانياً أو عربياً! إن إعطاء الأدب صفته القومية (لا اللغوية ولا الدينية) يمكّننا من الإطلالة على كل المبدعين منذ أن خط السومريون الحرف الأول عند ملتقى النهرين في الشرق، مروراً بقدموس يمخر أمواج المتوسط حاملاً الأبجدية الكنعانية ليعلم أوروبا الكتابة… وصولاً إلى إعادة تفعيل اللغة العربية مع البساتنة واليازجيين في جبال لبنان المنفتحة على الغرب. هذا هو تاريخنا الحضاري الشامل كل مكوناته، والذي نريده متواصلاً بخط تصاعدي لا انقطاع فيه ولا تجاهل ولا إلغاء…