شاربا الفلاح.. وصندوق النقد الدولي – بقلم المحامي ناجي بيضون
صندوق النقد الدولي، ليس صندوقا عاديا يوضع النقد فيه، ليوزع على الشعوب الفقيرة في ايام المحن ، ولا هو بصندوق خيري، توزع منه الصدقات لوجه الله تعالى.
صندوق النقد الدولي هذا، صندوق على استعداد لإقراض الدول، بعد دراسة مستفيضة، الغاية منها التأكد من أن هذه الدول ليست بحاجة إلى الاقتراض إلا بقدر ما يكون الصندوق بحاجة إلى من يقرضه.
والسياسة القرضية ، في هذه الحالة تتراوح بين قرض خيرات الشعوب وقرض شهية أبنائها، بشكل يؤدي إلى التوازن السكاني في العالم، الذي يجنح في هذه الأيام إلى هوة خطرة. فالأفواه الجائعة في العالم الثالث وتكاثرها يكاد يؤثر سلبا على رفاهية أصحاب الأفواه التي تفوح منها رائحة الدسم وغير الدسم، وبالتالي فلا بد من سياسة قرضية تؤدي إلى انقراض هذا السيل المخيف من الأفواه !
طبعا ليس من شيم أصحاب الصندوق الإعلان عن ذلك، لأن من أهداف الصندوق المعلنة التي لا يجوز التنازل عنها، رفع مستوى شعوب هذه الدول إلى مصاف الرقي الحضاري ، وتطويرها حضاريا واكسابها عادات حضارية، تؤدي في الغالب إلى فقدان الشهية بكل صورها، الأمر الذي يؤدي إلى تحديد النسل.
من العادات الحضارية التي يصر الصندوق عليها مثلا:
– الامتناع عن أكل الخبز الذي يؤدي إلى السمنة، وما ينشأ عنها من أمراض لا يجور للإنسان العصري أن يتعرض لها، کالدهن في الدم وارتفاع الضغط.
– الامتناع عن تناول السكر، الذي يؤدي إلى مرض السكري، والعياذ بالله.
– الامتناع عن أكل اللحم، لأنه يؤدي إلى مرض النقرس.
– الامتناع عن تناول الشاي والقهوة، وهي من المنبهات التي تؤدي إلى اليقظة الدائمة، وهذه من الأمور غير المرغوب فيها أبدا، ومنصوص عليها في سياسة الصندوق، لأنها تضر بالصحة و غير الصحة!
في اختصار يريد الصندوق أن يرفع شعوب العالم المتخلف، إلى مستوى “التانتات” التي تمتنع برضاها، في الغرب، عن تناول مثل تلك المأكولات التي تضر بالصحة العامة ، وقد تلحق بالتالي ضررا فادحا بصحة الصندوق!
وبما أن الطريقة الوحيدة اقتصاديا وعلميا وصندوقيا، للتخفيف من استهلاك سلعة، هو رفع ثمنها، كان الصندوق يضع شرطأ بسيطا لإعطاء القرض، هو رفع الدعم عن مثل هذه السلع، التي لا ضرورة لها كثيرا للأسباب الصحية المنوه بها أعلاه!
وإذا سأل حشري متطفل من أعضاء الوفد – طالب القرض- ولكن ماذا تفعل بالقرض؟ پجيبه المسؤولون عن الصندوق، ببساطة كلية، إن الغاية منه هي النهوض بالدول الفقيرة إلى مصاف الدول الراقية!
وهم لا ينتظرون سؤالهم كيف؟ بل يستطردون أن من أهم مظاهر الرقي في العالم المتمدن اليوم ،هو المحافظة على مظهر أنيق للإنسان .والصندوق حفاظا منه على هذه الغاية ، يشترط لإعطاء القرض، عقد صفقة بشراء كمية من ربطات العنق والسيارات والأواني الفضية والروائح العطرية الخ.. وهي الأمور التي يؤكد اقتناؤها،أن الإنسان وصل الى مرتبة من الرقي مطلوبة ومرغوبة ،وهي من صميم أهداف الصندوق.
المشكلة لدى صندوق النقد حساباته الدقيقة المبنية على أسس علمية سليمة جدا، لا تعطي دائما النتائج المتوخاة منها.وإننا تحمسا منا للسياسة الحكيمة التي ينتهجها صندوق النقد الدولي في قرض الشعوب، نروي له هذه الحكاية التي ليس لدينا غيرها، في مجال النصيحة والنصح، لجهلنا المطبق في علم الاقتصاد الصندوقي:
يحكى أن فلاحا يشمخ أنفه الطويل فوق شاربين هائلين، تناول عشاء دسما جدا نام على أثره دون أن يغسل وجهه كعادته فأيقظ شخيره الرهيب، فأرا جائعا، وعندما استيقظ الفلاح، امتدت يداه الى شاربيه اللذين يعتز بهما اعتزاز صندوق النقد الدولي بشروطه، فلم يجد لهما أثرا، لكن أصابعه التقطت، وهو يتحسس مكان الشاربين كرتين صغيرتين بلون الشاربين تماما، علم عندما قربهما من أنفه أنهما آثار الفأر.
قرر الفلاح أن ينتقم من هذا الفأر اللعين، الذي لم يكتف بالتهام شاربيه الغاليين ،بل ترك مكانهما شيئا، لا يجوز مطلقا أن يُترك في مثل هذا المكان ولا بالقرب من الأنف خصوصا .
اقتنى الفلاح هرا شرسا دربه تدريبا جيدا على فنون اصطياد الفئران،وأرخی لشاربيه العنان. وأعد وليمة من نفس الصنف، أتى عليها بكاملها مع هره الشرس . وكعادته طبعا، لم يغسل وجهه هذه المرة،ولكن عن سابق تصور وتصميم.
كان الفأر المسكين يراقب الفلاح والهر، يأكلان والدسم يقطر من شواربهما، ومعدته تتقطع جوعا .
نام الفلاح بعمق واطمئنان، وعلا شخيره كعادته، ولكن الهر الشرس نام بعمق واطمئنان أيضا.
عندما استيقظ الفلاح، نظر إلى هره الذي كان ما يزال يغط في نوم عميق إلى جانبه، فتبين له أن شوارب الهر قد طارت ،وتحسس شاربيه ،فطار صوابه أيضا!
الأربعاء ۲۷ أيلول/سپتمبر ۱۹۸۹ م
*هذه المقالة من كتاب المحامي ناجي بيضون بعنوان “كاريكاتور بالكلمات” الصادر عام 1994 ،وهي تصلح لكل زمان ومكان،خاصة مع مفاوضات لبنان الحالية مع صندوق النقد الدولي